الاثنين، 19 أكتوبر 2020

علي العميم و اربع مقالات له في إنصاف عمر فروخ والرد على حمزه المريني

 

حمزة المزيني وهجومه الضاري على عمر فروخ

الأحد - 10 صفر 1442 هـ - 27 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15279]
علي العميم
كاتب وصحافي سعودي

في شهر يونيو سنة 2014، كتب الأكاديمي حمزة بن قبلان المزيني المختص باللسانيات والترجمة في جريدة «الشرق» السعودية أربعة مقالات، هي على التوالي: «هل قالها جلادستون؟!»، «لم يقلها جلادستون!»، «هكذا تكلم جلادستون!»، «وأدلة أخرى».
لاحظ الدكتور حمزة في المقال الأول أن العبارة المنسوبة لرئيس الوزراء البريطاني ويليام جلادستون (1809 - 1898) «تُورَد بصيغ عدة في الكتابات الإسلامية المعاصرة، وأشهرها: (ما دام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان)».
ولاحظ أنها «لا ترد، بصيغتها الإنجليزية، إلا في مصادر الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب التي تستشهد بها على (بُعد نظر) جلادستون، لشعوره بخطر المسلمين على أوروبا، وهو (كما يؤكدون) ما صدقته الوقائع المعاصرة».
ولاحظ أنها «ترد بصيغها الإنجليزية في كتابات بعض المسلمين بالإنجليزية لتأكيد عداء الغرب تاريخياً للمسلمين».
ولاحظ أن «العبارة ترد بصيغتها المختلفة، بالعربية والإنجليزية، في مئات المقالات الصحافية والكتب البحثية والوعظية من غير عزو أو ذكر للمصدر الذي وردت فيه أول مرة».
أوضح الدكتور حمزة أنه سيكتفي بذكر ثلاثة أمثلة فقط، لورودها في نصف القرن الثاني، بصيغتها العربية، التي لا تعزوها إلى مصدر.
المثال الأول هو كتاب «هل نحن مسلمون؟» لمحمد قطب. وقد لاحظ أنه صاغ العبارة بصيغة تخص مصر وحدها؛ فمحمد قطب قال: «وفي سنة 1882 وقف المستر جلادستون رئيس الوزارة البريطانية في مجلس العموم البريطاني يمسك بيده نسخة من المصحف، ويقول لأعضاء المجلس: إنه ما دام هذا الكتاب باقياً في أيدي المصريين، فلن يستقر لنا قرار في تلك البلاد».
الطبعة التي نقل الدكتور حمزة عنها هذا النص أشار إلى أن تاريخها يرجع إلى سنة 1967.
المثال الثاني كتاب «شرح الطحاوية» لسفر الحوالي، الذي قال إنه أورد العبارة بحسب صيغتها الشائعة عند الإسلاميين. وبخلاف المثال السابق والمثال التالي فإن الدكتور حمزة لم يُشِر إلى تاريخ صدور هذا الكتاب.
المثال الثالث، هو مقال عنوانه «التربية الاستعمارية» نُشِر في مجلة «البحوث الإسلامية» الصادرة عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، لمحمود شيت خطاب الذي قال إنه أورد العبارة في مقاله هذا، بهذه الصيغة: «لا يستقر للاستعمار قرار ما دام هذا القرآن يُتلى صباح مساء بين المسلمين، فيجب أن نمزقه لنثبت أقدامنا في البلاد الإسلامية». وقد عرّف بمحمود شيت خطاب بأنه عسكري عراقي اشتهر بكتاباته المؤدلجة عن الفتوحات الإسلامية! وأشار إلى أن مقاله في تلك المجلة نُشِر في منتصف السبعينات الميلادية.
ذكر الدكتور حمزة بعدها أن بعض الكتب والمقالات التي تورد إحدى صيغ العبارة تشير إلى أخذها من مصادر متقدمة على أمثلته الثلاثة. وذكر أن أشهر الكتب التي يُرجع إليها كتاب المؤلف الفلسطيني نبيه زكريا عبد ربه «كيف نحيا بالقرآن»، الذي أشار إلى أنه صادر في سنة 1983.
وقد أخبرنا بأنه إذا ما رجعنا إلى تلك الصفحة في ذلك الكتاب، نجده يشير إلى أخذها عن الترجمة العربية التي أنجزها عمر فروخ لكتاب المستشرق النمساوي المسلم المعروف محمد أسد بعنوان «الإسلام على مفترق الطرق».
الدكتور حمزة حينما اعتقد أنه عثر على بغيته، وهي معرفة المصدر الأول الذي زوَّر العبارة على لسان جلادستون، سأل: «هل وردت العبارة في كتاب محمد أسد حقاً؟ وقد وردت في ترجمة عمر فروخ، ص 43، ضمن كلام محصور بين قوسين مركّنين [ ]، ولم تُنسب إلى مصدر».
إجابةً عن سؤاله هذا، أعلمنا أنه لما رجع إلى كتاب محمد أسد بلغته الإنجليزية للتأكد من وجود العبارة فيه، لم يجدها في الصفحة التي كانت يجب أن توجد فيها. وراح يسأل مرة أخرى: ما سبب وجود هذه العبارة في الترجمة العربية للكتاب وعدم وجودها في الأصل الإنجليزي إذن؟ وما سبب وضعها بين قوسين مركنين؟
وقد قال إجابةً عن هذين السؤالين: أخذتُ أبحث عن ذلك السبب حتى وجدته بشكل واضح في مقدمة المترجم، ص6؛ فهو يقول إن نفراً من المفكرين المشتغلين بقضايا العرب والمسلمين لفتوا نظره إلى نقطتين قيّمتين فيما يتعلق بإخراج هذا الكتاب. ويهمنا هنا النقطة الثانية. وهي كما يقول: «شرح بعض التعابير والآراء التي استغلقت على القارئ العادي». ويصف هذه النقطة بأنها كانت أصعب من النقطة الأولى، ذلك أن الحواشي تكون عادة بحرف صغير جداً، ثم هي فوق ذلك تزعج القارئ بنقل نظره مراراً بين أعلى الصفحة وأسفلها، ثم هي أيضاً (وهذا أكثر أهمية) تقطع على القارئ سلسلة أفكاره. «من أجل ذلك اخترت أن أضم هذا التفاسير والتعاليق في المتن نفسه بعد أن حصرتها بين معقوفتين هكذا: [ ]».
الدكتور حمزة بعد نقله لبعض ما سماه خطأً مقدمة المترجم، وضع علامة تعجب ثم علّق على الكلام السابق قائلاً: «ومع غرابة هذا التصرف الذي لا يقره الباحثون والمترجمون، إلا أن المترجم لم يلتزم به، فقد كتب بعض التعليقات في هوامش بعض الصفحات: 13... كما أنه لم يترجم هوامش المؤلف، كما في هوامش ص14... ويبين هذا أن المترجم، بفعلته هذه، لبّس على قُرّاء الكتاب عموماً، وعلى الذين استشهدوا بترجمته خصوصاً، إذ لم يفطن أولئك جميعاً لهذا التصرف، ولم يلفت أنظارهم إيضاح المترجم في مقدمته لتصرفه غير المعهود. وأثمر هذا كله قراءة عمياء تنسب للكتاب الأصل كلاماً ليس فيه، وذلك كله غش من المترجم ساعد على تعميمه عمى قراء الترجمة المؤدلجين».
واصل الدكتور حمزة هجومه الضاري على عمر فروخ، فقال: «ليست العبارة المنسوبة إلى جلادستون في ترجمة عمر فروخ مما كتبه محمد أسد إذن، بل هي من إضافات المترجم، وهو لم ينسبها إلى مصدر! وهذا التصرف أصدق دليل على مقولة خيانة الترجمة! ويشهد هذا كله بخطر الأدلجة التي دفعت المترجم المؤدلج إلى إضافة مثل هذه العبارة المهمة، التي لم ينسبها إلى مصدر، إلى متن كتاب ليست فيه أصلاً، وهو ما أدى إلى الاستخدام المؤدلج لها نتيجة لغفلة قراء الترجمة المؤدلجين التي أعمتهم عن التساؤل عن المصدر الذي أخذت منه عند احتجاجهم بها».
إن الذي ذكّرني بمقالات الدكتور حمزة الأربعة القديمة، وقد عرضت لكم معظم ما جاء في مقاله الأول، هو أنني في خاتمة المقال السابق نقلتُ عن أحمد أمين في كتابه «يوم الإسلام» قوله إن المستر جلادستون قال بوجوب إعدام القرآن، وتطهير أوروبا من المسلمين. وكان من غير اللائق أدبياً وعلمياً قبل أن أشير إلى أن ما نسبه أحمد أمين لجلادستون ليس له أصل، أن أقفز على مقالات الدكتور حمزة الممتازة التي كان فيها هو الأكاديمي الوحيد في العالم العربي وفي العالم الإسلامي الذي تصدى لتمحيص صحة ما نُسِب إلى جلادستون في هذين العالمين. وهي مقالات لا غنية عن الرجوع إليها للاستفادة منها، وهي متوفرة كاملة على موقعه الخاص به على الإنترنت.
ومع هذا التثمين لتلك المقالات الممتازة، فإنني أرى أنه لم يكن موفّقاً في تتبعه لورود العبارة المنسوبة لجلادستون عند الإسلاميين العرب، وأرى أنه لا يعرف شيئاً عن سياقها عند الإسلاميين الأتراك والإسلاميين الهنود. ولم يكن موفقاً في اختيار مثاله الثاني لأكثر من سبب. أحدها أنه لو رجع إلى رسالة سفر الحوالي عن العلمانية للحصول على درجة الماجستير، وليس إلى كتابه «شرح الطحاوية» الذي هو ليس مثالاً نافعاً، لوجد أنه في هذه الرسالة التي نُشِرت في كتاب مطبوع، عزاها إلى مصدر هو بمثابة منشور سياسي وعقائدي ضد الغرب وتاريخه وحاضره مع العالم الإسلامي رائج عند الإسلاميين في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، اسمه «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام... أبيدوا أهله»، أعدّه إسلامي سوري باسم مستعار، هو جلال العالم، واسمه الحقيقي عبد الودود بسام يوسف.
وأرى أنه حين اعتقد أنه عثر على بغيته، وقع بمزالق منهجية وأخطاء معلوماتية ومجازفات شتى، بدأها بحكاية ليس فيها تسلسل منطقي. وهي أنه فعلاً وجد العبارة في كتاب محمد أسد المترجم إلى العربية: «الإسلام على مفترق الطرق»، ولما وجدها فيه هرع مباشرة إلى نصه الأصلي المكتوب باللغة الإنجليزية، ليتأكد هل هي حقاً موجودة فيه؟
إن أي قارئ متمرس في القراءة لأي صفحة من صفحات ذلك الكتاب موجود في متنها كلام محصور بين معقوفتين أو بين قوسين مركّنين، سيلفت نظره هذا الأمر حتى لو كان فتيَّ السن، وسيرجع مباشرة إلى أول صفحات الكتاب أو إلى مقدمته، ليستطلع جليته، ولن يكلف نفسه عناء طَرْق باب بعيد، وهو باب النص الأصلي. هذا إذا ما كان يقرأ باللغة الانجليزية.
ثم إن ما كتبه المترجم عمر فروخ ليس «مقدمة»، وإنما هو «ملاحظة». وقد عنونها بهذا العنوان. قد يجادل الدكتور حمزة بأن جيرارد جينّيت اعتبر الملاحظة note أحد أنواع التقديم preface (راجع تقديم نعيمان عثمان لترجمته كتاب إلياس كانيتي: «محاكمة كافكا الأخيرة»، في طبعته الثانية)، لكن هذا الرأي يتساهل في قبوله لو أن الكتاب قد خلا من «مقدمة». ففي الكتاب «مقدمة» كتبها صديق عمر فروخ الطبيب الدكتور مصطفى الخالدي.
إن الدكتور حمزة افتعل تلك الحكاية غير المعقولة، ليشتد بالقول على عمر فروخ، ويحمّله وحده مسؤوليته خطأ نسبة العبارة إلى جلادستون. ولأن حكايته كانت حكاية مفتعلة، فأسئلته الثلاثة، هي (بالتالي) أسئلة غير ذات معنى. وسأصد عدوانه (كما سيرى القارئ) على العلّامة عمر فروخ بقوة وصرامة وحزم. وللحديث بقية.

=================================


لو أن حمزة المزيني تمعن قليلاً فيما قرأ

الأحد - 17 صفر 1442 هـ - 04 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15286]
علي العميم
كاتب وصحافي سعودي

لم يذكر الدكتور حمزة بن قبلان المزيني في مقاله الأول «هل قالها غلادستون؟!» تاريخ طبعة كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» باللغة الإنجليزية التي رجع إليها. وفي سيرته الذاتية «واستقرت بها النوى» التي صدرت قبل تسعة أشهر، تحدث عن مقالاته الأربع التي كان موضوعها الجملة المنسوبة إلى غلادستون، وذكر في هامش هذه الإحالة باللغة الإنجليزية، هذه المعلومة وهي:
Muhammad Asad. Islam at THE Cross Roads. Gibratar: Dar AL- Andulas, 1982.
فكشف بهذه الإحالة أن معرفته بتاريخ الكتاب باللغة الإنجليزية، هي بقدر معرفته بتاريخ ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية. ولقد نتج عن عدم معرفته بهذين التاريخين أخطاء جمة. سأبدأها بالحديث عن خطأ اعتماده على طبعة 1982 باللغة الإنجليزية.
إن هذه الطبعة، وطبعتين ظهرتا بعدها، وهما طبعتا 1995 و2003، صدرتا عن الدار ذاتها، دار الأندلس، جبل طارق، لا يصح الرجوع إليها لمطابقتها مع ترجمة عمر فروخ للكتاب؛ لأن طبعة عام 1982 طبعة مضللة. فمحمد أسد قد نقحها وشذبها وهذبها. ولم يذكر في مقدمته الجديدة لكتابه الذائع في العالم العربي وفي العالم الإسلامي أنه قد فعل ذلك. كما أن الشيخ الإسلامي صالح بن عبد الرحمن الحصين الذي ترجم هذه الطبعة إلى العربية عام 2009 قد فعل مثله!
ولأوضح للدكتور حمزة أنها طبعة مضللة، سأورد له مثالاً ساطعاً.
إنني لو قلت له إن أول من أشاع في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، أن تسمية النبي محمد في بعض اللغات الأوروبية منذ أيام الحروب الصليبية «ماهوند» هي لنبزه، هو محمد أسد في كتابه «الإسلام على مفترق الطرق» الذي نشره في لاهور وفي دلهي باللغة الإنجليزية عام 1934، والذي ترجمه إلى العربية عمر فروخ عام 1946، ثم ذهب الدكتور حمزة إلى تلك الطبعة التي هي في حوزته ليتأكد من صحة ما قلته له، ولم يجدها فيها، فهل سيقول إنها من إضافات المترجم عمر فروخ، لمجرد أن محمد أسد قد حذفها من هذه الطبعة المنقحة والمشذبة والمهذبة، من دون أن يعلم القارئ بذلك، بعدما تبين له عدم صحة ما قاله في الطبعة الأصلية؟
يقول محمد أسد في فصل «شبح الحروب الصليبية» الذي ترجمه الشيخ الحصين إلى «ظل الحروب الصليبية»، وهو يتحدث عن عصر الحروب الصليبية: «في ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوروبيين، من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيراً لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت. في ذلك الحين أيضاً نبز الرسول بقولهم: كلبي».
شرح مترجم الكتاب عمر فروخ مقصود محمد أسد بالكلبي، فقال في الهامش: «كلبي – Mahound وازن بين صورة Mahomed وصورة Mahound. إن Ma (ما): ضمير الملك للمتكلم (ضمير جر) وhound (هاوند) من Hund (هوند) الجرمانية بمعنى الكلب. وقد كان أولئك النابزون يتلاعبون بظاهر اللفظتين: (ماهومد)، و(ماهوند)».
الدكتور عمر فروخ لسبب فني تصرف في ترجمة السطر الذي وردت فيه تلك المعلومة. وهذا السطر كما ترجمه لي صديق هو كما يلي: «وفي ذلك الحين، ولأول مرة، نجد أن النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) كان ينعت بـ(ماهوند)».
ولعل من أوائل الكتب في اللغة العربية التي نقلت تلك المعلومة بمتنها وهامشها هو كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، لسيد قطب، الصادر في عام 1949.
إن تلك المعلومة التي حذفها من طبعة 1982 هي في التشويش الذي أحدثته في العالم العربي وفي العالم الإسلامي أخطر من الجملة المنسوبة لغلادستون؛ لأن الجملة المنسوبة لغلادستون لا يصدق بها في هذين العالمين سوى جمهور الخطاب الإسلامي، في حين أن تلك المعلومة أخذ بصحتها هؤلاء وأناس يصدرون في فكرهم وتفكيرهم عن فكر وتفكير علماني. فالعماد مصطفى طلاس مثلاً في رده على دفاع صادق جلال العظم عن رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية» المنشور بعنوان «الخارجون عن جلودهم» في مجلة «الناقد» في أبريل (نيسان) 1993، كان مسلِّماً بها.
صادق جلال العظم في رده على هذا الرد أثبت في بحثه عن أصل كلمة «ماهوند» في بعض اللغات الأوروبية الذي استند فيه إلى المعاجم الإنجليزية والفرنسية والألمانية الكبيرة، أن تلك المعلومة غير صحيحة.
وإنني انتهز هذه المناسبة لأنصح القارئ الذي لم يسبق له أن قرأ هذا البحث، بأن يطالعه، وهو موجود في كتابه «ما بعد ذهنية التحريم» الصادر في عام 1997.
وللتدليل على تفشي تلك المعلومة الخاطئة في العالم الإسلامي، أذكِّر بأن المظاهرات التي قام بها الهنود والباكستانيون في لندن وبومباي وإسلام آباد ودكا ونيويورك، والمظاهرات التي قام بها مسلمون آخرون في طهران وإسطنبول والخرطوم، للتنديد برواية «آيات شيطانية» وبصاحبها بعد صدورها في أواخر عام 1988، كان من مسبباتها استخدامه اسم «ماهوند» للإشارة إلى النبي محمد.
إن الدكتور حمزة لو رجع إلى طبعة من طبعات كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» الأصلية باللغة الإنجليزية (الطبعة الأولى، وهي طبعة نادرة متوفرة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وطبعة عام 1962، وهي متوفرة في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وطبعة عام 1956، وهي متوفرة على الإنترنت) لعرف أن المؤلف كتب متناً من دون هوامش، ولعرف أن الهوامش التي قرأها في الطبعة التي رجع إليها هي من ضمن تنقيحات المؤلف على الطبعة الأصلية لكتابه، ولعرف أيضاً أن ملحوظته على المترجم عمر فروخ التي قال فيها: «كما أنه لم يترجم هوامش المؤلف، كما في هوامش ص 14 وص 29 من الأصل وغيرهما، مثلاً» ملحوظة خاطئة.
لنرجع إلى الهامشين: هامش ص 14، وهامش ص 29، لنعرف ماذا قال محمد أسد فيهما.
هامش ص 14يقول: «فكرة البيع والشراء بالمعنى الثقافي، والدور السلبي للمسلمين المعاصرين في هذا المجال، أخذها فيما بعد وطورها الكاتب الجزائري مالك بن نبي الذي شدد على الحقيقة التي أوضحتها من قبل في هذا الكتاب، وهي...».
إن الدكتور حمزة لو تمعن قليلاً في جملة: «أخذها فيما بعد وطورها» وفي جملة: «التي أوضحتها من قبل في هذا الكتاب» لأدرك أن هذا الهامش ليس هامشاً أصلياً في الكتاب، وإنما هو هامش كتبه المؤلف بآخره.
في هامش ص29 يقول: «أحب أن أوضح أني لا أستعمل اصطلاح (ثيوقراطية) بالمعنى الذي يفهم عادة من هذه الكلمة في الغرب، والمبني على التجربة الغربية الخاصة. انظر فصل (الاصطلاح والسوابق التاريخية) من كتاب المؤلف المعنون (مبادئ الدولة والحكم في الإسلام)».
إن الدكتور حمزة لو كان مطلعاً على مؤلفات محمد أسد، ويعلم عن تواريخ صدورها، لبان له أن الكتاب الذي أشار محمد أسد إليه في هذا الهامش هو كتاب تالٍ لكتابه «الإسلام على مفترق الطرق».
والكتاب الذي أشار محمد أسد إليه في الهامش هو كما قال عنه: «هو تطور أفكار أتيح لها الظهور للمرة الأولى في رسالة كتبتها بعنوان (بناء الدستور الإسلامي) – ConstiTution Making Islamic ونشرت باللغتين الإنجليزية والأردية في مارس (آذار) 1948». وقد ترجمه إلى العربية منصور محمد ماضي تحت إشرافه بعنوان «منهاج الإسلام في الحكم» عام 1957. (راجع مقدمة محمد أسد لترجمة كتابه هذا إلى العربية).
في هامش رقم 3 وفي هامش رقم 8: «وأنا أنقل أجزاءً من نصوص الهوامش من ترجمة الشيخ الحصين للكتاب الصادرة عن مكتبة الملك عبد العزيز العامة» أحال إلى ترجمته وتفسيره للقرآن (رسالة القرآن).
فلو أن الدكتور حمزة مطلع على مؤلفات محمد أسد بالإنجليزية، لعرف أن هذه الإحالة تشير إلى قضيتين، هما:
أن «رسالة القرآن» صدر في مرحلة زمنية متأخرة من حياته. فالجزء الأول منه صدر في عام 1974، وجزؤه الثاني صدر في عام 1980.
إن هذا الكتاب الذي بدأ العمل عليه منذ عام 1964، يمثل مرحلة فكرية مختلفة عن المرحلة الفكرية التي ألف في ظلها كتابيه: «الإسلام على مفترق الطرق» و«منهاج الإسلام في الحكم». هذه المرحلة الفكرية المختلفة هي اتجاهه لإسلام المدرسة العقلانية، بعد أن كان إسلامياً أصولياً متطرفاً.
في هامش رقم 4 – وسأورد نصه كاملاً - يقول: «ومن جانب آخر، فمن العدل أن نشير إلى أنه – حتى نهاية القرن السابع عشر - كانت النصرانية (وبخاصة الكنيسة النصرانية) تلعب دوراً كبيراً جداً وإيجابياً جداً في تطوير الفنون البصرية - الرسم والنحت والعمارة - بالإضافة إلى الموسيقى الغربية، ولم يقتصر دورها على الإلهام والتشجيع؛ بل تعداه إلى الرعاية والتمويل».
لو تمعن الدكتور حمزة قليلاً في هذا الهامش وهو يقرأه، لأدرك أنه استدراك متأخر على ما قاله في المتن، وذلك حين قال: «ولا شك أن هذا المنطق الذي يميز الحضارة الغربية الحديثة غير مقبول في دين المسيح، كما هو غير مقبول في الإسلام، ولا في أي دين حق؛ لأنه غير ديني من أساسه، وعلى هذا فإن عزو الإنجازات العملية للحضارة الغربية الحديثة إلى الفعالية المفترضة للتعاليم المسيحية أمر بالغ السخافة. فإن المسيحية لم تسهم بأي قدر يذكر في التطور العلمي المادي الذي ميز حضارة الغرب المعاصرة على غيرها؛ بل إن هذه الإنجازات – في الحقيقة – نتجت عن الصراع الفكري ضد الكنيسة وفكرتها عن الحياة».
وبمقارنة هذه الفقرة من المتن مع ترجمة عمر فروخ لها، ووجدت أنه لطَّف من حدة هذا الرأي وقسوته على الديانة المسيحية في الصياغة؛ بل وجدت أنه قال جملة هي عين ما ورد في استدراك محمد أسد المتأخر على متنه. وللحديث بقية.

===============================================

«الإسلام على مفترق الطرق» بين طبعتين

الأحد - 24 صفر 1442 هـ - 11 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15293]
علي العميم
كاتب وصحافي سعودي

ترجمة عمر فروخ للفقرة التي تلطّف في صياغتها كانت على النحو الآتي: «فلا ريب إذن في أن هذا الاتجاه، الذي تتميز به المدنية الغربية الحديثة، لا يجد قبولاً في التفكير الديني المسيحي، كما لا يجد قبولاً في الإسلام أو في كل دين آخر، وذلك لأنه لا ديني في جوهره. وهكذا تكون نسبة نتاج المدنية الغربية الحديثة إلى النصرانية خطأً تاريخياً عظيماً. إن النصرانية ساهمت في جزءٍ يسير جداً من الرقي العلمي المادي الذي فاق به الغرب، في مدنيته الحاضرة كل ما سواه. وفي الحق أن ذلك النتاج قد برز من كفاح أوربة المتطاول للكنيسة المسيحية ولاستشرافها للحياة».
إن تلطيف عمر فروخ لصياغة هذه الفقرة وتصرفه فيها إلى حدٍ كبير سببه أنه لبناني مسلم؛ فهو لم يرد أن يترجمها كما هي بعباراتها الناشفة الحادة حتى لا تستفز مشاعر المسيحيين الدينية في بلده، لبنان، ولكيلا يكون كتاب محمد أسد عن الإسلام ومحمد أسد نفسه المتحول الجديد إلى الإسلام منفّرَين لهم، ومنفّرين للمسيحيين في بقية البلدان العربية، كفلسطين وسوريا والعراق ومصر.
وهناك مثال آخر لهذا الأمر؛ فمحمد أسد يقول في المتن: «ثم إن للنصرانية في نظر السواد الأعظم معنى شكلياً فقط، كما كانت حال آلهة روما». فيضع عمر فروخ هامشاً تفسيرياً، قال فيه في الطبعة الأولى وفي الطبعة الثانية: «ليس من شك في أن المؤلف إنما يقصد من حكمه هذا نصارى أوربة». وفي الطبعة الثالثة والطبعات التي تلتها اختصر هذا الهامش إلى: «يقصد المؤلف من حكمه هذا نصارى أوربة».
إنني أتيت بهذين المثالين لأدفع عن عمر فروخ تحامل الدكتور حمزة عليه؛ فهو في حديثه عنه عده في عبارة مغلفة، هي الأدلجة ومشتقاتها، من غلاة الإسلاميين. وهذا حكم خاطئ على العلامة عمر فروخ. نعم، عمر فروخ يتوفر على نزعة دينية وحميّة إسلامية، كما أنه مفكر محافظ في مجال الدينيات ومجال الأدب واللغة ومجال التاريخ وفي ترجمته لكتاب فيليب حتي، «الإسلام منهج حياة»، لكنه ليس متعصباً دينياً، ولا يكتب ولا يفكر كما علماء الدين المسلمين التقليديين ولا كالذين يحملون صفة الإسلاميين. ولعل ما يميز كتابات فروخ عن كتابات الإسلاميين هو تحقُّق الشرط العلمي فيها، بينما هؤلاء لا يعبأون بتحقق الشرط العلمي في كتاباتهم، أو هم غير قادرين على تحقيقه.
في هامش رقم 5 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «شهدنا في النصف الأخير للقرن العشرين تحسناً كبيراً في هذا الخصوص؛ فالكتابات الغربية عن الإسلام والمسلمين تُظهِر تقدماً تدريجياً في تقدير المنهج الإسلامي واتجاهات المسلمين، واختفت محاولات تشويه صورة الإسلام من الكتابات الاستشراقية الجادة، ولو أن قلة من المستشرقين لم يتخلصوا تماماً من تحيزهم بعد».
هذا الهامش أيضاً استدراك متأخر على ما قاله في المتن. وهو قوله: «فإننا - بالضرورة - يجب أن نصل إلى استنتاج أن العقل الغربي - عموماً - ولسبب أو لآخر - متحيز ضد الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية».
في هامش رقم 6 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «لا بد أن يؤخذ في الاعتبار أن هذا الكلام كُتِب عام 1933م. وكما ذكرتُ من قبل: لقد حدث تغيير في كتابات المستشرقين في العقود التالية، ولكن ما يمكن تسميته (العقل الأوروبي والأمريكي) لم يستطع بعد الوصول إلى نظرة متوازنة تجاه الإسلام وما يتعلق به، إلا أن المسلمين ملومون إلى حد كبير. أولاً: لعدم تقديمهم الإسلام بصورة يفهمها العقل الغربي. وثانياً: لسوء تجسيدهم لأهدافهم الدينية والاجتماعية - السياسية».
هذا الهامش أيضاً هو استدراك متأخر على ما قاله في المتن، وقد أراد به أن يخفف من غلواء ما قاله، فهو في المتن قال: «وعلى حين مر زمن على تحرر العلوم الاستشراقية من التأثير التبشيري، فلم يبق معها لعلوم الاستشراق عذر من التعصب الديني، فإن تحيز المستشرقين ضد الإسلام صار شبه غريزي، بناء على الانطباع الذي سبَّبَته الحملات الصليبية بجميع نتائجها على عقل أوروبا القديمة».
المستشرقون (كما نعلم) ليسوا كلهم من المسيحيين؛ ففيهم يهود. واليهود ضد التبشير المسيحي، لأنه يهدد ديانتهم ويهدد حصتهم العددية القليلة في الوجود. وهم خارج نطاق التعلق بميراث الحروب الصليبية، بل إن لهذا الميراث ذكريات أليمة عندهم سواء أكانوا أيام الحروب الصليبية من سكان «الجيتّو» في أوروبا أو من سكان أرض فلسطين.
في هامش رقم 7 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «ومع ذلك فإن زيادة ثروة بلاد المسلمين نتيجة لمواردها النفطية الهائلة، وبالتالي زيادة أهميتها في المحيط الاقتصادي والسياسي، قد جلبت معها اهتماماً أوروبياً كبيراً في العالم المسلم (في حقل الفن والتاريخ بخاصة)، أما عن الدين فإن الإسلام لا يزال مجهولاً في الغرب، بالرغم من الاجتماعات والندوات والحوارات بين المسلمين والمسيحيين».
هذا الهامش هو استدراك على ما جاء في خاتمة تحليله الذي قال فيه: «لكن في الوقت الذي فقد فيه الإسلام معظمهم أهميته التأثيرية، بالمقارنة مع المصالح الأوربية السياسية، فإن من الطبيعي، مع تقلص الخوف من الإسلام، أن تتقلص حدة الشعور بمعاداة الإسلام لدى الغرب. وإذا خف ظهور هذه المشاعر ونشاطها، فلا يخولنا ذلك استنتاج أن الغرب صار أقرب إلى الإسلام، بل يشير إلى زيادة عدم اكتراث الغرب بالإسلام».
ولأن الدكتور حمزة المزيني لا يعرف تاريخ الطبعة الأولى للكتاب باللغة الإنجليزية، ولا تاريخ الطبعة الأولى لترجمته إلى اللغة العربية، فإنه لم يتنبه إلى أن الهامش يتحدث عن فترة زمنية في تاريخ اهتمام الغرب بالإسلام، وهي فترة ما بعد عام 1973، وذلك بعد قرار حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وإلى هولندا ودول أخرى كانت تدعم إسرائيل في حرب أكتوبر. وهو القرار الذي نتج عنه ارتفاع سعر النفط.
في هامش 9 يقول محمد أسد: «إذا لم نتبع السنّة في أحوالها الثلاثة، أي أنها طريقة حياة النبي صلى الله عليه وسلم...».
هذا الهامش زيادة في توضيح ما كتبه في عام 1933، ونشره في عام 1934، بالإنجليزية من أن « كلمة سُنّة تستعمل هنا بمعناها الأوسع، أي القدوة التي وضعها الله لنا في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله ومواقفه».
هامش رقم 10، وهو الهامش الأخير يحيل إلى هامش رقم 9، ويزيد في توضيح ما قاله في المتن، وهو قوله: «ومهما تكن الحال، فإننا ملزمون بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وباتباعه بشرط ثبوت صحة أمره أو نهيه».
أما ما قاله الدكتور حمزة في ملحوظته الأولى من أن عمر فروخ في ترجمته لم يلتزم بما اختاره من ضم تفاسيره وتعاليقه في المتن نفسه بعد أن حصرها بين معقوفتين؛ فقد كتب (كما قال) بعض التعليقات في هوامش بعض الصفحات... فأقول، ردّاً على هذه الملحوظة، إن ما أضافه عمر فروخ إلى متن الكتاب من تفاسير وتعاليق ووضعها بين معقوفتين تختلف عما كتبه في حواشي الكتاب؛ فالأولى أراد بها أن تكون جزءاً مكملاً للمتن، فالمؤلف في مقدمته كان قد صرّح بأن كتابه كتاب مجمل مختصر سينكشف عن حمله الآخرين على زيادة التفكير في بعض النواحي الأساسية في الإسلام، وعلى الأخص فيما يتعلق بالسُّنة. ولقد علّق عمر فروخ على هذا الإيضاح في أحد هوامشه بقوله: «إن اتساع الموضوع (موضوع مسايرة الإسلام لحوادث العالم الجارية) هو الذي جعل المؤلف يوجز في الكلام، فيُلّم هو بالنظرة العامة ويترك مهمة للباحثين في تفصيل هذا الموضوع العظيم».
أما الثانية، أو ما كتبه في بعض حواشي الكتاب فهي تتراوح ما بين إحالة وتعريف بمفهوم وإشارة لحادثة.
إنني أميل إلى أن الدكتور حمزة حين رجع إلى كتاب محمد أسد باللغة الإنجليزية ليتأكد من وجود العبارة المنسوبة إلى غلادستون، قرأه قراءة عجلى وناقصة، واكتفى بمطالعة هوامشه مطالعة هي الأخرى عجلى، بدليل أنه لم يذكر أن عمر فروخ لم يترجم كلمة المؤلف التي كتبها في طنجة عام 1982.
إن الدكتور حمزة لو أنه قرأ كلمة المؤلف، ولو كان يعرف تاريخ طبعته الأولى التي ترجمها عمر فروخ إلى العربية، لعرف أن كلمة المؤلف كتبها المؤلف بعد مرور ما يقارب من نصف قرن على صدور الطبعة الأولى من كتابه باللغة الإنجليزية.
ولو أنه تدبر هذه الكلمة، لرأى أن المؤلف في بعض فقراتها كان يسوغ ويبرر لراديكاليته الإسلامية التي كان لها أثر سيئ على بعض المؤلفات الإسلامية، وعلى الصحوة الدينية في العالم الإسلامي بدعوى إساءة فهم كتابه، وهذه مسألة سأرجئ الحديث عنها إلى مقال قادم.
كما يتوفر دليل آخر على أن قراءة الدكتور حمزة للكتاب باللغة الإنجليزية هي قراءة عجلى وناقصة. ففي ترجمة عمر فروخ للكتاب قبل الخاتمة هناك عنوانان هما «السنة والحديث»، و«روح السنة». وفي الطبعة التي رجع الدكتور حمزة إليها لا يوجد إلا العنوان الأول؛ فلماذا لم يضف هذه الملحوظة إلى الملحوظتين اللتين ذكرهما؟!
وهنا أبيّن أن العنوانين موجودان في الطبعة الأصلية للكتاب باللغة الإنجليزية، لكن المؤلف في الطبعة المنقحة التي رجع حمزة اليها أدمج فصل «روح السنة»، في فصل «السنة والحديث»، وحذف عنوان «روح السنة». ربما لأنه اختصر معظم صفحاته.
وقد أثار استغرابي أن الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين في ترجمته طبعة الكتاب المنقحة غير عنوان «السنة والحديث» إلى عنوان «الكتاب والسنة». وقد حرت في العثور على السبب الذي حمله على هذا التغيير.
قد يكون السبب أن محمد أسد في فصل «السنة والحديث» اعتبر السنة رديفاً للقرآن من حيث الدلالة والتوضيح، وأن القرآن لا يمكن فهمه إلا بواسطة السنّة. وهي القضية التي ألحّ محمد أسد على تأكيدها في هذا الفصل، وفي الفصل الذي تلاه: «روح السنة»، فرأى الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين أن العنوان الأنسب هو «الكتاب والسنة» لا «السنة والحديث».
ولقد أخطأ الشيخ في اجتهاده هذا؛ فالقرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، لم يكن هو موضوع رد ومجادلة محمد أسد في هذين الفصلين؛ فهو في هذين الفصلين يرد على الشبهات التي يثيرها بعض المستشرقين حول السنّة والحديث، ويجادل المسلمين العصريين الذين يشككون في حجية السنة والحديث، ويدعون إلى الاكتفاء بالرجوع إلى القرآن. وللحديث بقية.

====================================

إنصافاً لعمر فروخ من اتهامٍ ركيك

الأحد - 2 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 18 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15300]
علي العميم
كاتب وصحافي سعودي

كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق»، في ترجمته إلى اللغة العربية التي قام بها عمر فروخ منذ عام 1946 إلى أن ترجم الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين عام 2009، طبعته المنقحة الصادرة باللغة الإنجليزية عام 1982، كتاب متعدد الطبعات، وإذا ما تجاوزنا عقد الخمسينات الذي طبع الكتاب فيه طبعة واحدة، فإننا نجد أنه في العقد الواحد طبع أكثر من مرة، فلماذا لم يكتب الشيخ الحصين إيضاحاً بأن الطبعة التي ترجمها تختلف بعض الشيء عن الطبعة الأصلية التي ترجمها عمر فروخ عام 1946؟!
هناك سببان لذلك.
الأول، لأن محمد أسد لم يقدم إيضاحاً كهذا في طبعة عام 1982، باللغة الإنجليزية! أما محمد أسد فإنه لم يقدم مثل هذا الإيضاح، لأن الكتاب - وهو كتابه الأول - استقبل بحفاوة كبيرة عند مسلمي القارة الهندية الذين قرأوه بلغته الأصلية الإنجليزية، واستقبل بمثلها عند أهل الدين في العالم العربي على مختلف تياراتهم وتوجهاتهم، الذين قرأوه بلغته المترجمة إلى العربية، وكان له أثر جلي على عدد من المؤلفات الإسلامية التي ظهرت بعد كتابه في هذين العالمين، فشق عليه في طبعة الكتاب المنقحة أن يصارحهم بأن مؤلف الكتاب لم يعد محمد أسد الأول، بل غدا إسلامياً عصرياً، وهو الذي في كتابه هذا العزيز عليه جداً، كان قد تصدى في أول ثلاثينات القرن الماضي بنزعة جدالية لتفنيد مقولات الإسلام العصري.
الآخر، أن الإسلاميين العرب الذين عرفوا بخبر تحوله إلى الإسلام العصري، وذلك قبل أن يصدر طبعة كتابه المنقحة بسنوات، ساءهم هذا الخبر، فكانوا كمن مُني بغصة لا تساغ، لأن محمد أسد هو مؤلف كتابهم الإسلامي الأول، وذلك حينما تُرجم إلى اللغة العربية في طبعته الأولى، في العام المشار إليه سلفاً. وهذا ما جعلهم يعتِّمون على خبر تحوله عن اتجاهه الأول، الاتجاه الأصولي!
شذ عن هذا الاتفاق بسطامي محمد سعيد في رسالته «مفهوم تجديد الدين»، التي نال عليها درجة الماجستير من قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، وأشرف عليها الدكتور جعفر شيخ إدريس، يوم الاثنين 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1981، الذي بعد أن أجزل الثناء على كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق) قال: «ولكن كتب المؤلف الأخرى لا تعطي الانطباع الذي يعطيه كتابه السالف، وإذا استبعد كتابه (الطريق إلى مكة) الذي هو قصة أدبية رائعة عن الثلاثين سنة الأولى من حياته واعتناقه الإسلام، ولا يعد كتاباً فكرياً، فإن كتبه الأخرى، تنضح بفكر عصراني خالص، حتى أن المرء لا يجانب الصواب كثيراً إذا وصفه - وبخاصة في ترجمته لمعاني القرآن والحواشي والهوامش التي ضمتها الترجمة - بأنه نسخة أوربية السيد خان، أعظم مفكري العصرانية المسلمين. ولا غرو فإنه لتأثره بالمادية الغربية التي لا تؤمن بما وراء المحسوس المشاهد، لم يستطع أن يتخلص من بقاياه الجاهلية، فأقبل في الإسلام على العصرانية يؤول ويفسر كل شيء في حدود عالم الحس وأذواق الغرب. ويقدم لنا محمد أسد - تماماً كالسيد خان - نموذجاً متكاملاً للفكر العصراني الإسلامي، إذ لم يقتصر فكره على دائرة واحدة من دوائر الإسلام، بل شمل العقائد والتفسير والحديث والفقه». (الرسالة طبعت في كتاب صادر عن «دار الدعوة» بالكويت عام 1984. راجع ما قاله عن محمد أسد في هذا الكتاب من ص 153 إلى ص 161).
بصرف النظر عن غلو أحكام طالب الدراسات العليا، بسطامي محمد سعيد، الذي سيغدو فيما بعد رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية في جامعة برمنغهام لفترة، بعد أن نال درجة الدكتوراه من جامعة أدنبره عن رسالته «الحاكمية في التصور الإسلامي»، على المنحى العقلاني الذي تحول محمد أسد إليه، فإنه هو والمشرف على رسالته، جعفر شيخ إدريس، يمثلان رأي أقلية قليلة من الإسلاميين التي لا تجد في نفسها حرجاً ثقافياً وآيديولوجياً من الهجوم الديني على تحول محمد أسد الإسلامي الجديد.
الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين ليس مع هذا الرأي الإسلامي العربي الأقلوي، وإنما هو مع رأي أكثرية الإسلاميين العرب التي اختارت التعتيم على خبر تحوله.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى مناقشة الدكتور حمزة بن قبلان المزيني.
في الحكاية التي رواها والتي مفادها أنه عثر على العبارة المنسوبة إلى غلادستون في كلام موضوع بين معقوفتين في متن كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» المترجم إلى اللغة العربية. فلم تطمئن نفسه إلى أن محمد أسد يمكن أن ينسبها إلى غلادستون. فرجع إلى كتاب محمد أسد بلغته الإنجليزية، فلم يجدها فيه. ثم عاد مرة أخرى إلى الكتاب المترجم. وقرأ في أول الكتاب إيضاحاً من المترجم عمر فروخ بأن الكلام الموجود في متن الكتاب، والموضوع بين معقوفتين، هو تفاسيره وتعاليقه هو لا المؤلف.
نجده وبعد أن اتضح له هذا الأمر على حقيقته، أجاز لنفسه أن يتهم مترجم الكتاب عمر فروخ بالغش في الترجمة!
ولشدة تحامل الدكتور حمزة على عمر فروخ أقحم مقولة «الترجمة خيانة» أو «المترجم خائن» في غير موضعها وفي غير سياقها.
يقول الدكتور حمزة: «فليست العبارة المنسوبة إلى غلادستون في ترجمة عمر فروخ ما كتبه محمد أسد، إذن، بل هي من إضافات المترجم، وهو لم ينسبها إلى مصدر! وهذا التصرف أصدق دليل على (خيانة) الترجمة!».
إن الدكتور حمزة يتهم عمر فروخ مرة ثانية بالتدليس والتزوير، مع أن معنى المقولة التي أصلها مثلٌ إيطالي، والتي هي غير متفق عليها بين بعض المترجمين، أن المترجم الذي ينقل نصاً من لغة إلى أخرى، هو مضطر ومجبر ألاّ يكون أميناً ووفياً مع النص الذي ينقله، كما هو في لغته الأصلية. وهي تقال في صدد ترجمة الأدب، خصوصاً الشعر.
يقول عمر فروخ: «نقل كتب العلم على العلماء هيّن، لأن العالم ينقل كتباً يعرف موضوعاتها ومصطلحاتها ولا يتكلف في النقل: إنه يريد نقل المعاني في أبسط صورها. أما نقل الأدب فإنه صعب، لأن الأدب الجيد يقوم على متانة التعبير وعلى الصور البلاغية من تشابيه واستعارات وكنايات، وهذه تختلف في اللغات المختلفة اختلافاً كبيراً» (راجع بحثه المفيد الذي تضمن حديثاً عن بعض تجاربه في الترجمة «الترجمة أو نقل الكلام من لغة إلى أخرى» المنشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ع3 الأول من يوليو/ تموز 1979).
وإذا ما تجاوزنا أن الدكتور حمزة فهم تلك المقولة فهماً حرفياً خاطئاً، فاتهامه المشين لعمر فروخ هو اتهام ركيك، لأن عمر فروخ في أول صفحة من ترجمته للكتاب نبّه إلى أن التفاسير والتعاليق المحصورة بين معقوفتين هي من كلامه هو لا من كلام المؤلف محمد أسد. والدكتور حمزة - بحسب الحكاية التي رواها - عرف أنها من إضافاته بعد أن عاد إلى ترجمة عمر فروخ للكتاب مرة أخرى، وقرأ تلك الصفحة.
يصف الدكتور حمزة ما فعله الدكتور عمر فروخ؛ وضع تفاسير وتعاليقه في المتن لا في الهامش، بالتصرف الغريب الذي لا يقره الباحثون والمترجمون. وليسمح لي الدكتور حمزة الذي هو أعلم مني بأصول وقواعد وتقاليد الترجمة، أن أشكك في وجود هذا المبدأ على ضوء تجارب عمر فروخ في الترجمة.
هناك كتاب اسمه «الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين» مؤلفوه هم: جورج سارتون، ريتشادر إتنغهاوزن، كوينسي رايت، فيلكس بوشنسكي، وليام ديمانود، روجر سولتو. أشرف على جمعه وتحريره مجيد خوري. وراجعه محمد مصطفى زيادة. وترجمه إلى العربية عمر فروخ ومحمد مصطفى زيادة وجعفر خياط. هذا الكتاب نشر بالاشتراك مع «مؤسسة فرانكلين» المساهمة للطباعة والنشر، نيويورك - القاهرة، في عام 1953.
في هذا الكتاب ترجم عمر فروخ بحثين، يهمنا هنا البحث الأول، وهو «حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية» لجورج سارتون المشهور بمؤلفه عن تاريخ العلم.
ومما قاله عمر فروخ في مقدمته للبحث - وهو يشرح طريقته في الترجمة: «ثم إن الكتاب في الأصل يضم حواشي تفسيرية كثيرة، وهذه تمنع القراءة السائرة، ومن أجل ذلك عمدت إلى إدخال الحواشي في المتن. ورجعت في ذلك كله إلى رأي الدكتور سارتون، فلم يجد ضرراً فيما فعلته». وفي خاتمة مقدمته قال: «وبعد، فإن عليّ تبعة كل ما في هذا النص العربي، مع العلم بأن الدكتور سارتون قرأه وأجازه».
فإذا كان المبدأ الذي أومأ الدكتور حمزة إليه موجوداً، فلماذا لم يعترض جورج سارتون ومجيد خدوري ومحمد مصطفى زيادة ومؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر على طريقته في الترجمة؟
هذا البحث المنشور في هذا الكتاب، كان عمر فروخ قد أصدره في كتيب عام 1952، في دار المعارف ببيروت تحت عنوان «الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط». ويختلف هذا الكتيب في مقدمته عن مقدمة البحث المنشور في ذلك الكتاب، أنه قدم فيها تعريفاً بجورج سارتون.
وهناك كتاب ثان اسمه «الطريق إلى النجوم» مؤلفه فان دررَيت وللي، رئيس المرصد الفلكي في غرينيتش، نقله عمر فروخ إلى العربية عام 1964. والترجمة صادرة عن «دار العلم للملايين».
يقول عمر فروخ في ترجمته لهذا الكتاب: «فقد حرصت على أن أميّع عدداً من الجمل المركزة أو أوسّع بعض الجمل الموجزة بقدر استطاعتي. وكنت قد استأذنت المؤلف في أن أفعل ذلك، ثم إنني قد حصرت كل ما جئت به من التمييع والتوسيع بين أهلّة».
ويقول أيضاً: «من أجل ذلك شرحت بعض هذه، وعرّفت ببعض أولئك على وجه التقريب وعلى غاية من الإيجاز، إما في المتن بين أهلة أو في الحواشي. إن جميع الحواشي في هذا الكتاب لي إلاّ حاشية واحدة سأشير إليها في مكانها».
ومما يستوجب ذكره أن المؤلف الذي لم يعترض على طريقة عمر فروخ في الترجمة، كتب مقدمة قصيرة للطبعة العربية بتاريخ 12-11-1963.
المثال الأخير هو كتاب «الإسلام منهج الحياة» لفيليب حتي، الذي ترجمه عمر فروخ إلى العربية عام 1972.
في أول صفحة من الجزء الأول من هذا الكتاب، قال عمر فروخ في هامشها: «في أثناء نقل هذا الكتاب بدا لي أن زيادة عدد من التعابير والجمل التوضيحية أو المألوفة أمر ضرورة للقارئ العربي. ولما اطلع المؤلف على ذلك رغب في حصر ما لا بد منه بين أهلّة معقوفة ليدل الهلالان المعقوفان على أن ما بينهما منّي وليس منه. ثم إن عدداً من التعابير والجمل التفسيرية التي بين أهلّة منحنية هو منّي أيضاً». وللحديث بقية.














































هناك تعليقان (2):