الأحد، 6 مايو 2012

عشرة أيام في مترو القاهرة: من "أم المصريين" إلى "السادات" وبالعكس القاهرة ـ فجر يعقوب


AlmustaqbalPDFA4 PDF  |  FULL PDF
المستقبل - الاحد 6 أيار 2012 - العدد 4333 - نوافذ - صفحة 9

عشرة أيام في مترو القاهرة:
من "أم المصريين" إلى "السادات" وبالعكس


القاهرة ـ فجر يعقوب
التنقل بمترو القاهرة ربما يسبب إحساساً متعاظماً بأزمة في حياة المصريين من نوع مختلف، تتعاظم يومياً وتزداد تقلباتها مع دخول البلاد في حالة غموض ودوار سياسي صعب، ازداد حدة منذ أحداث 25 يناير. فقد أصبح المترو علامة إضافية في عمل الثوار أيضاً، يستخدمونها للضغط في سباقهم الماراثوني الطويل مع المجلس العسكري، عبر التلويح بتعطيله أو السيطرة على أنفاقه الكثيرة. كما يمكّن " أبناء السلفي " حازم أبو اسماعيل من التظاهر داخله للمناداة بعودة زعيمهم إلى السباق الرئاسي، بعد أن أصبح في ليلة وضحاها "ابن الأميركية" الذي لا يحتمل، وأقصي من حلبته. وقد يبدو صعبا لمراقب عابر أن يقول شيئا يتعدى تلك الانطباعات التي تولدت جراء تنقله اليومي، مدة عشرة أيام، مستخدما هذا المترو من محطة أم المصريين في الجيزة إلى محطة السادات (ميدان التحرير)، وبالعكس، مرورا بالطبع بمحطات البحوث وفيصل وجامعة القاهرة والدقي والأوبرا، وعلى ما فهمنا، فإن محطة الأوبرا تخترق نهر النيل في استخدام ربما لم يعد يشكل " معجزة " عند غالبية المصريين، الذين أخذوا يتحسسون في مواقع عدة، أن المترو الذي بدأ العمل به عام 1989 أصبح قديماً وشائخاً بما فيه الكفاية، ومتخلفا كما يقول البعض منهم، حتى عن متروات بعض الدول الفقيرة.
ليست أعطال المترو مخففة، فقد ينتج عنها أحيانا كوارث، إما بسبب من السائق، أو بسبب انقطاع التيار الكهربائي لسبب ما، وهناك معطيات وأرقام عن ضحايا ومصابين بنتيجة تكرار مثل هذه الأخطاء. اليوم يجد مترو القاهرة نفسه محاصرا بنيران الجميع، وهي نيران سياسية واجتماعية ومطلبية وشعاراتية و"غرافيتية"، بعضها ينادي بمواصلة مطاردة الفلول وابقاء جذوة الثورة مستمرة حتى تتحقق المطالب (......)، وبعضها لايتوقف حتى عن التوعد بنوع من المزاح لابن المشير طنطاوي لو صدف وقرر أن يستقل المترو في يوم من أيام "أم الدنيا" التي تعاند الزمن وحيدة وحاسرة الرأس، بما لايرضي سدنة المعبد البرلماني الجدد، وقد أطبقوا على أعمدته وسقوفه وكتبه وتشريعات لانهايات لها. بعضها لايمكن تصديقه، لأنه يأتي من خارج " منجزات " العقل الحديث ، وبعضها يمكن تصديقه لأنه وصفة للانحطاط الممنهج الذي يمكن أن تسير عليه حضارات وهي في طريقها للاضمحلال الاستراتيجي والانقراض الحرّ أو الأفول المريح، فلو صدق مثلا أن هناك من يدرس (حتى ولو كان من غير ملامح بشرية، أو شبح ساكن في أفلام الرعب) امكانية مضاجعة الزوج لزوجته المتوفاة حديثا، وخلال ست ساعات بعد وفاتها، فيمكن حينئذ التصديق على فكرة الدخول طوعا في مترو الجنون.في أبريل العاصف يقول صديقي أبو حاتم (عمرو علي)، الطالب الدارس في المعهد العالي للسينما في القاهرة يمكن أن يحدث هذا كما يريد المجانين، لا كما يريد الشاعر، وربما كما يريد الأسلاف الجدد". والزيارة هنا، لا تكتمل إلا في أبريل، وأبريل أقسى الشهور، وأشدها لؤما كما قد يذهب ت. س. اليوت في يوم سابق لم تتجاوزه البشرية أبدا في سباقها الغريب مع شرعنة الفوضى في ترتيب حركة الشهور وحركة النماء عند البشر. قراءة واحدة في حالة البلكيمي، وحالة الحازمين،(أنصار حازم أبو اسماعيل كما بات يطلق عليهم )، تكفي للجزم أن حالة من الاستعصاء ستسود البلاد طويلا، تشبه حالات الاستعصاء في مترو القاهرة، وقد أصبح لعموم المصريين ( 3 مليون راكب يستقلونه يوميا ) أنفاقا، يمكن النزول إليها، وشل أكبر شريان حيوي للنقل فيها، ما إن تتكرر " جمع " الثوار والحازمين وغيرهم، والتهديد هنا يأخذ أشكالا مختلفة، تبدأ من محاولات تعطيله وسد منافذه على محطاته المختلفة والتبادلية التي تتوزع المدينة العملاقة، ولا تنتهي بالتهديد بازالة الرسوم الغرافيتية المتواجدة بكثرة على حيطانه من زمن الثورة الجديدة في مشروع مضاد لوزارة الثقافة يقضي بدفعها أو حثها لتبني مثل هذه الرسوم في معارض متنقلة ومتحولة.
في السادس من أبريل الفائت كان على مجموعة صغيرة من جماعة " أبو اسماعين " أن تخرج مستنكرة ومنددة في وجهة تبدو معلومة، من جامع الفتح باتجاه ميدان التحرير وهي ترفع صور الرئيس المحتمل لمصر (قبل استبعاده من الحلبة) ، وأقنعة يمكن أن تخيف بها الأطفال، كما تندر صديقي أبو حاتم وهو يقف إلى جانبي ويشير إلى قناع يمثل صورة ابو اسماعين يزين ساعد شاب من جماعته. ولكنها لم تكن كذلك لجهة الشعارات التي كانت تزجر الجميع، وتقلل من فرص الجميع بالبقاء في الميدان ساعات أو عمرا أطول. ومن تعب منهم تجمع عند محل (توم وبصل)، القريب من فوهة (المكان الأسطوري)، وتناول مسرعا وجبة الكشري المصرية الشهيرة، بعد أن أعياه الصراخ وشلته الوجهة المجهولة التي يقودون أم المصريين إليها، فهي هنا في هذه اللحظات التاريخية الفاصلة، لم تعد مجرد محطة مترو ودلالة على منطقة شعبية كثيفة السكان والأسواق يشار إليها، بل شروع منظم في التنازل عن أمومة الدنيا وعلامة غامضة على امكانية وصول الحازمين إلى مؤسسة الرئاسة، ليقول ويفتي الزمزمي من بعده إنه من المباح والمتاح نكاح الزوج لزوجته بعد وفاتها، وحذف كل ماهو " مسيء " في الأفلام، قديمها وحديثها.
وصل الحازمون إلى الميدان، وغابت عنه الأطياف الأخرى. الأطياف التي قادت وخططت للثورة لم تكن هناك، وقام أنصار (أبو اسماعين) بسد المنافذ إليه عبر المتاريس البشرية لرجال ارتدوا العباءات البيضاء، وأطلقوا لحاهم كما صراخهم في كل اتجاه. وكان يجب التوقف عن التصوير من باب الحذر، فقد سألنا شاب مصري يقف على الرصيف مع زميل له ما اذا كنا من أنصار أبي اسماعيل وهو متيقن بالطبع إننا لسنا كذلك، فقلنا لا، وماإن أدرك هويتنا حتى قال بلهجة طيبة : " اهربوا ح يكسروكو ، دول قندهار ". حاولنا قطع الساتر البشري باتجاه نفق محطة السادات لنستقل المترو باتجاه محطة أم المصريين، فوجدنا أنفسنا ضمن دائرة خانقة من أنصاره كانت تهتف قبالة شرفة مطلة على النفق والميدان معا ضد شخص يبدو أنه يقيم فيها، وفهمنا من نوعية الشعارات الغاضبة أن ثمة عميل هنا ( للأميركيين )، والجموع الهائجة تنادي من تحت بضرورة انزال العقاب فيه. سألنا أحدهم عن وجهتنا بعد أن لمح كاميرا الفيديو الصغيرة ( HD ) معنا، وبدا متوجسا وثقيلا في سؤاله ، فأجابه صديقي بإننا ذاهبان لنستقل المترو، فأفسح الطريق متبرما، بعد أن أدركنا هو الآخر من لهجتنا ( الشامية )، وقد طاولته الشكوك من شيء لايمكن التكهن به، طالما أنه لم يفاتحنا به. سألني صديقي عن ظاهرة البلكيمي متبسما لما رأى بعض القلق على وجهي ليبدد الشكوك أو ليزيدها، وهو قلق خفي وغير مفهوم ولايمكن اعتباره شخصنة لأحوال مغرقة في ضبابيتها، فثمة قلق من نوع آخر يخيم على القاهرة ويعيشه المصريون في وجوههم، فلم يكن رد الاعتبار ممكنا لها هذه المرة واعتبار كما في كل مرة أنها "منورة بأهلها ". هذا القلق الذي يمشي الجميع عليه ( مع أو ضد ) يمكن أن تقرأه وتلحظه في وجوه الأصدقاء، وهم قلة ممن التقيناهم في المعهد العالي للسينما، أو في مقهى ريش، أو حتى في مقهى زهرة البستان.
البلكيمي، يذكّر أبو حاتم بشبحه ثانية، وكأنه يهرب أمامنا مندفعا" من أحد أفلام الرعب ليلحق بضحاياه في نفق محطة السادات، هو النائب السلفي في البرلمان المصري الذي اضطر للكذب والادعاء أمام لجنة برلمانية بأن مجهولين قد هاجموه وشوهوا له وجهه. وكادت كذبته أن تنطلي على أعضاء اللجنة، لولا أن انكشفت كذبته بسرعة، فالنائب السلفي قام في وقت سابق باجراء عملية تجميل لأنفه الضخم، وكان بوسعه أن يتوارى عن الأنظار حتى يشفى، ولكنه اشتاق للوقوف أمام الكاميرات التلفزيونية وعدسات المصورين، وكان يجب عليه أن يبرر هيئته الجديدة أمام السادة النواب، فاخترع كذبة المهاجمين المجهولين، وشاءت الأٌقدار أن تفتضح روايته من قبل الطبيب الذي شاهد صورته وقرأ روايته في صحيفة محلية، وقام بكشف كذبته. الكذب في أبريل يتردد صداه، ويصبح قاسيا كالزجاج، وقد يتناثر كما يتناثر الأصحاب في المعارك الفكرية والأيديولوجية من حولنا، ولكنه أبدا يحتفظ بجوهر واحد لايتغير ولايتبدل، ويصبح لزاماً كما يقول الصديق عن معركته خلال عامين من التنقل في مترو القاهرة على حداثة سنه، بأنه لم يعد مجديا الاقتناع بفكرة الكذب ملح الرجال. الكذب هنا ملح للبلكيمي وحده، والملح هنا يمكن أن يفسد، ولا يعود مهما بماذا يملح بعد اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق