الأحد، 6 مايو 2012

يوسف بزي - .. مع حسن داوود (بعد 13 عاماً، يغادر حسن داوود ملحق "نوافذ" الذي يستمر أميناً لطموحه، وبرفقته بلا شرط "الوظيفة" وسيكون معه بالتأكيد في أي مغامرة جديدة، لا بد أن حسن ذاهب إليها.)


AlmustaqbalPDFA4 PDF  |  FULL PDF
المستقبل - الاحد 6 أيار 2012 - العدد 4333 - نوافذ - صفحة 9


.. مع حسن داوود


يوسف بزي
ما إن كتب حسن داوود حتى "توسع" حقل الكتابة في لبنان، وفي الأدب العربي المعاصر. منذ نصوصه الأولى، بدا الاختلاف في الموضوعات والأساليب ممكناً ومتحققاً في اقتراحاته وممارسته اللغوية. وهذا نادراً ما يحققه أي كاتب. التوسع ذاك أصاب فينا أيضاً ذائقة القراءة معه وعند الآخرين: نجيب محفوظ، أو فؤاد كنعان أو فوكنر أو كواباتا...
على نحو مفاجئ تقريباً، أتت روايته كوثبة وعيّ قطعت مع مراهقة روائية سائدة بكل طيشها وهفواتها (في لبنان على الأقل). كان ثمة انتقال أكيد من القص والحكي إلى "الكتابة" بوصفها إشتغال في السرد والنثر، حيث ما هو واقعي أو غير واقعي، وما هو منظور أو متخيل، لا يتحدد إلا وفق علاقات منطقية جمالية بين تعبيرات معينة في اللغة أو في مشكلات اللغة، علاقات ابتكرها أسلوب داوود الموارب والإيحائي، الذي لشدة وضوحه ودقته نظنه باستمرار "وصفياً" فيما هو متجذر بملاحقة اللامرئي.
فكرة حسن داوود عن الرواية هي إعادة اعتبار لـ"الكتابة"، ولتلك المتعة القديمة فيها، كما يجب أن يختبرها الكاتب والقارئ معاً. ولهذا السبب بالذات، التقليدي، فهو منذ مطلع الثمانينات بدا وكأنه يعمل على اعادة وصل مع ذاكرة الكتابة (التراثية والحداثية بلا تمييز) وانتباه أكبر لشرط الرواية المعاصرة: تيه الحكاية واستحالة الحبكة. وبمعنى آخر، كان يبحث عن طريقة لوضع حد لهذه الخفة التي كانت تسود الكتابة الروائية.
منذ "تحت شرفة أنجي" و"بناية ماتيلد" و"نزهة الملاك" و"أيام زائدة" استقام الفارق بين شعرية النثر القصصي والروائي... والشاعرية الأدبية البلهاء التي كانت تستحوذ على أغلب الفن الروائي السائد. فارق في "الإنشاء" وفي المعنى. لكن الأهم، ان كتابة حسن داوود منحت الرواية ما قد نسميه "فن المراوغة": العبارة التي تتلاعب بمعناها، وتندفع مخاتلة أعمق من سطحها ولفظها. هذه السمة القائمة على الظن والقلق والحيرة والضيق، جعلتنا باستمرار إزاء رواية داوود متمهلين لا مسرعين، أي اننا "نقرأ" أكثر مما نجري نظرة المطالعة على الأسطر.
لا نعرف تماماً كيف نفسر أيضاً شعورنا بأننا ما أن نبدأ بقراءة نص لداوود حتى نظن أن ثمة لغة تتدفق بهدوء وصمت، في حين أن الضجيج والصخب والأصوات هي التي تهمين عادة على أكثر ما يقع بين أيدينا من كتب، مع أن روايات حسن هي حكايات وسِيَر محتشدة ومضطربة ومثقلة بالعنف المكبوت. ربما ما نسميه الصمت هنا هو الأناقة في القول، والرهافة في التعبير.
وفضيلة كتابة حسن داوود الكبرى هي ملابستها للزمن، هذه المعضلة الوجودية للكائن. المعضلة التي تصير السؤال الروائي الأشد الحاحاً، وربما تكون علة كل كتابات حسن داوود. وتحت وطأة هذا السؤال تتفتح رواياته على مهل وببطء وبجريان هادئ ومتصل، حيث كل عبارة هي محاولة عنيدة للقبض لا على اللحظة الثابتة لكن على مسار تحولها الذي بالكاد يمكن ملاحظته. وعندما نقول "الزمن" هنا، نعني به معايشة الكائن لذاته ولمكانه. وهذا ما يستدعي في روايات داوود ذاك السرد المضني القائم على الظن لا اليقين، على الحيرة والقلق والالتباس، في الوصف المتأني للأشياء والأمكنة وفي جمع "أثر" الحوادث وشتات معانيها. فلا "أفكار" حاسمة هنا، لكن احتمالات شتى. وهذه هي بالطبع غواية الفن الروائي وسر قوته.
أتى حسن داوود الى الصحافة مع هذا السر. وبقدر واضح من المخالفة لشرط الصحافة: التقريرية، الخبرية. كان عليه أن يترجم نظرته إلى الكتابة في اقتراح "مهني" سرعان ما سيكون أيضاً "توسعاً" فعلياً في أساليب وموضوعات الصحافة المكتوبة في لبنان. فهو مثلاً كانت له المساهمة الأبرز منذ اواخر الثمانينات بما سمي "موجة النوستالجيا" حين انتشرت في الصحافة تلك التدوينات الرائعة لسير الأمكنة والشخوص ومواضي الحوادث المهملة والتحولات السوسيولوجية وأفاعيل الحرب على الحيوات الخاصة والعلاقات والذكريات المندثرة. وجاءت تلك التدوينات في لحظة انتباه اللبنانيين إلى ابتعادهم الشديد القسوة عن ما كانوا عليه قبل الحرب. وربما كان هذا الانتباه المؤثر على ثقافتهم وسياستهم ومزاجهم هو وليد تلك التدوينات نفسها وكشوفها الحميمة.
من "السفير" إلى "الحياة" إلى "المستقبل" سينشغل حسن داوود مثلاً في إعادة النظر وفق حساسيته الروائية بوظيفة الصورة الفوتوغرافية مقدماً الجمالية فيها على الواقعية، ثم سيعمد إلى مخالفة تقليد الصحافة الثقافية القائم على "المتابعة" الخبرية و"النقد" والذي يفصل الأدب عن ما عداه ويصنف الثقافة على انها مسرح وفن تشكيلي وموسيقى وسينما وشعر.. الخ. فهو سيعمل على جعل ما هو ثقافي صحافي بلا ضفاف ومن دون فواصل ومتصل كما الرواية بمجالات الحياة اليومية كلها وبضروب الممارسات الفنية بكل هوامشها ومظاهرها وبالحراك الاجتماعي وفضائه العمومي. ومتصل أيضاً بالمعنى السياسي والفلسفي. وكل هذا مقيّد فحسب بطموح فن الكتابة، أي التدوين الذي يعلن ويحقق البعد الثقافي، المضاف إلى الصحافة.
منذ العام 1999 بدأت تجربة ملحق "نوافذ" وفق التصور الذي تواطأنا عليه وطورناه سوية مع حسن داوود. ملحق ثقافي أوسع من صفة الأدبي الفني، منفتح على كل عنوان وحدث، فنحن مثلاً إذ نوّدع القرن العشرين، كان علينا أن نعاين هذا الوداع ونحقق في آثاره وعلاماته، ان ننتبه من أضيق التفاصيل إلى أفاعيله.
وكان علينا في بيروت "إعادة الإعمار" ان نلاحق تلك التغيرات في العمران والديموغرافيا، تغيرات في اللغة والسلوك وأنماط العيش والمظاهر اليومية والمشهد العمومي. وفي "نوافذ" طوال اكثر من عقد كان الرصد المستمر للتحولات العميقة في الحياة العربية، مع الأجيال الشابة في مدن القاهرة وبغداد ودمشق، عدا عن الصلة المباشرة لكتّاب "نوافذ" المقيمين في روما وباريس وبرلين ولندن (شعراء وروائيين وباحثين) يعاينون الظواهر والوقائع الأوروبية. كان علينا الترجمة أيضاً لما يكتب في لغات العالم ونساهم في الأسئلة الملحة (11 أيلول، حرب العراق، الانتفاضة الفلسطينية، ربيع دمشق الأول، ربيع بيروت 2005، وصولاً إلى الربيع العربي) جنباً إلى جنب مع البحث عن القصائد ومتابعة المسرح والسينما ومواكبة النتاج الفني والفكري والكتب.
في "نوافذ" كانت معادلة "مسؤولية المثقف" وواجب الموقف، "ومسؤولية الصحافي" وواجب النقد و"مسؤولية الكاتب" وواجب اللغة. وهي المعادلة الحديثة للصحافة الثقافية التي باتت اليوم نموذجاً نراه يتعمم في صحف العالم العربي. وهذا الانجاز ما كان ممكناًَ لولا العمل الدؤوب لحسن داوود ورؤيته الثاقبة والطليعية.
بعد 13 عاماً، يغادر حسن داوود ملحق "نوافذ" الذي يستمر أميناً لطموحه، وبرفقته بلا شرط "الوظيفة" وسيكون معه بالتأكيد في أي مغامرة جديدة، لا بد أن حسن ذاهب إليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق