لا تنبت المدن بين عشية وضحاها، ولا تُعمَّر البيوت في رمشة عين، ولا تزرع الشتول والزهور وتتزين الشرفات في لحظة صفاء واحدة. ولا تشق الشوارع بناءً على تخطيطات مكاتب المهندسين، ولا تفتح المتاجر لأن أحدهم قرر أن يبيع ويشتري ويربح المال، ولا تنشأ الساحات والأسواق والحارات بحكم العادة اليومية. ولا يكتمل الاجتماع والحشد البشري المتنوع بمحض الصدفة. ولا تضج الحياة بدورانها المدوِّخ لأن هذا السلطان أو ذاك قد ورث كرسي الحكم، وصارت له حاشية وأتباع يأكلون من خبزه ويضربون بسيفه. كل هذا وسواه يحتاج إلى عقود وقرون متلاحقة تتوالى من دون انقطاع. أو كما قال ابن خلدون إلى أجيال وأجيال كي يكتمل العمران ويستقيم على عوده.
والمدن لا تموت لأن أحدهم قرر لها هذا المصير، أو لأن الدهر قادها مع تتالي الخطوب إلى نهاياتها المحتومة. المدن تذوي على المدى الطويل، تضعف ولكنها لا تتلاشى، كما أنها لا تصبح أثراً بعد عين، لأن هناك من أراد لها هذا المصير. دوماً هي تحتفظ بسرديات من سبقوا في حكايا وقصص أهلها وبقايا آثارهم وأشيائهم وعمرانهم. نحن نعرف ذلك، ونعرف أيضاً أن الذين يضعون اللبنة الأولى في هذا المعمار المتشابك من الناس والحجارة ومقومات العيش يريدون لمدنهم أن تبقى حية أبداً، ما دامت هناك أرض وشمس وقمر يدورون في فلك الفضاء، يبعثون إلينا نحن البعيدون عنهم بتتالي الأيام والفصول ويوميات المناخ. ولأننا نحن الذين طوينا أشرعة القرى ووضعناها تحت أبطنا، وقصدناها خفافاً مدفوعين برائحة البحر وامتداده الذي كنا نسائل أنفسنا عندما رأيناه للمرة الأولى: هل هناك لهذا البحر ضفة أخرى لا نراها؟ حتى تعلمنا في الجغرافية أن الأرض ليست محمولة على قرن ثور يغضب فتتدحرج البيوت بسقوفها والجدران، ثم يهدأ فتعود الحياة مستقيمة كسطور في دفاتر صفوفنا. وأن الأرض دائرية تسبح في فضاء سديمي لا حدود له ولا نهايات، وأن بحرنا له حدود يابسة وعليه قرى وبلدات ومدن ودول لها أسماء وأعلام وعملات ولغات وشعوب لديها منتجاتها المختلفة. وكنا نشاهد بأم أعيننا البواخر الكبيرة راسية بقاماتها المهيبة في مياهنا كمدن عائمة تحمل معها قصصاً لا نعرفها. تجيء إلينا بالناس الذين يرتدون قبعات صيف وثياباً خفيفة أو معاطف شتاء وملبوسات سميكة.
وأفواج البحارة الذين ينزلون في مرسانا الصغير بثيابهم الزرقاء والبيضاء، وكأن البحر نفسه هو من أوجدهم في أمكنة بعيدة وهيأهم كي يأتوا إلينا، ويسيروا معنا في الشوارع يأكلون من خبزنا وملحنا وطبخنا في المطاعم والأسواق، يسيرون فرادى وجماعات ولا نرى البضائع التي يحملونها معهم، أو تلك التي يعودون بمثلها بعد أن يملأوا مقاهينا صخباً وعربدة ولغات لا نعرف معاني كلماتها.
ولأن بيروت هي هذا المرفأ الذي تكوكب حوله الناس، تحولت من قرية صغيرة قديمة إلى بلدة كبيرة، فمدينة فعاصمة قبل قيام الكيان والدولة. ومع بدء رحلة الحداثة صارت درة في تاج مرصع بالأصداف والألوان القرمزية، واجهتها إلى البحر بما يرد منه وفيه وظهرها الى جدار الجبل الصلد، وهذا الشرق المترع بكؤوس النبوءات والصحارى الملتهبة والأحلام الضائعة. تنظر المدينة إلى الأمواج المتكسرة على صفحات الماء والصخور، وتروي قصة وجودها منذ الزمن الفينيقي إلى ما تلاه، وما مرَّ عليها من زلازل ونوازل. لكنها دوماً كطائر الفينيق تعاود النهوض بوجع ووجد ناسها وشغفهم. تضيف الإدارات المتعاقبة – رغم الحروب ومآسيها - شيئاً من أشيائها إليها حتى أضحت على ما هي عليه، وخرجت من دائرتها الضيقة إلى ما هو أرحب وأوسع مساحة من بواباتها القديمة وسورها الصغير، كي تتسع للقادمين إليها من كل الأعراق والمنابت والثقافات ولمختلف الأغراض والمقاصد. وعاشت عمرها تزهو قروناً وتخبو بين زمن وآخر، يهرسها الاهمال، لكنها تعود فتتبرج معلنة عن صباحات جديدة باسم الناس الذين استطابوا الحياة فيها، أو اضطرتهم صروفها إلى قصدها، فأعلنوا انتسابهم إلى هوائها وبحرها ورملها وبرها ومدارسها وجامعاتها وحلقات الجدل في مقاهي أرصفتها، ومعابدها الوثنية وكنائسها ومساجدها وخلواتها وكل ما ينتسب إلى العقائد البشرية بصلة قربى.
الناس، الناس يا أبناء الأفاعي. أيها القتلة والمافيا المجرمة الشريرة والجهنمية الذين أحضرتم وخزنتم هذا المركَّب – اللعنة حتى كان ما كان من زلزال صنع بأيد محلية خبيرة تضافرت معاً وصولاً إلى النتائج الكارثية التي عصفت بالمكان وأهله ومن هو معهم وبينهم من خلق الله. كأن غضباً سماوياً حلَّ في ساعة تخلٍ فأحالنا إلى نتف ممزقة متناثرة. قبل قليل كانت تضج بالحياة فأصبحنا هشيماً للنار والدخان والشكل الفطري الملعون يظللنا فنسقط في وهدة التحلل والذوبان تحت وطأة الهول والذهول. ونحن لمّا نزل إلى الآن نودع قوافل الشهداء، نوزعهم من أرصفة مرفئها وبين عنابره ومن حاراتها القريبة والبعيدة على كل الأرجاء اللبنانية، أو من الذين واللواتي أقاموا/أقمن معنا، مقدرين أن رحلة الحياة معنا وفي رحابنا تظل ممكنة كونها مضمخة بشمس المتوسط وملحه وألفته السخية وهدوء مياهه. ونحن ممن شهدنا وعشنا حروباً لا تنطفئ إلا لتشتعل أخرى جديدة ندرك مدى خطورة العيش في مدينة ساحلية تقع على فالق سياسي واجتماعي داخلي واقليمي ودولي. ولأننا تذوقنا اللوعة التي بات الآن يدركها الجميع في البحث عن جثة أخ وزوج ورفيق وصديق وابن وابنة. نلهث ونحن وقوفاً أمام أبواب المستشفيات الموصدة، وألسنتنا معقودة على الأسئلة التي لا جواب عنها، والصور التي تتلاحق في ذهنك وأنت تركض عبثاً، وكأنك في صحراء التيه، تدور وأنت في مساحات السراب البعيد كلما اقتربت منه ابتعد وتركك، وليس في فمك سوى العطش إلى كلمة أو إيماءة، تحمل الحرقة في قلبك ولا من يمنحك أكسير الحياة مجرد قطرة من الجواب الشافي المفقود... تدور وتدور تركض حتى يسقط قلبك، ولا من يستجيب لأبسط ما تريده معرفة مصير كائن من لحم ودم وطموحات ومشاريع كان قبل قليل يلهج بها، وكأنها باتت طوع بنانه وفي متناول قبضته.
ممنوع عليك أن تتلقى جواباً ما فقد انقلبت الحياة وبات عاليها سافلها، وكل ما تطمح إليه بات ممنوعاً عنك، ولا صدر تخبئ وجهك في أحضانه ، والجميع في هول الكارثة باتت ألسنتهم مربوطة بخيوط لا تنقطع من الصمت القاتل... لا تعثر على جثة هذا الكائن الذي كان بالنسبة لك كل الحياة. تتواضع فتسأل عن أشلائه بالأقل، عن بقايا ثيابه/ها، عن ساعة يده/ يدها، عن خاتم أصبعه/ها، عن علامة فارقة على صدره/ صدرها/ عن شامة في وجهه/ وجهها، عن ندبة جرح قديم ، عن أي شيء ينفرد به عني وعنك وعن الآخرين... يريد ذوو المفقودين ما تبقى من أبنائهم وبناتهم ، قطعة يد أو عظام مهشمة، أو حتى منديل جيب مطوي في جيب سترة أو قميص مدمّى كي يؤونها التراب ويعلنون الحداد كي يشفوا من هول فقدانهم المباغت، وكأنهم لم يكونوا يوماً كائنات حقيقية من لحم ودم، أو لم يخرجوا للقيام بواجباتهم المهنية أو لتحصيل أرزاقهم أو اسعاف جريح وإنقاذ مستغيث يناديهم من تحت أكوام الأنقاض... شبان وصبايا ورجال ونساء وأطفال كانوا يفترضون أنهم يؤدون أدوارهم ومهامهم بكل شجاعة أو يعبون أكسير الحياة، أياً كانت صفاتهم ضاعوا وسط عصف وهول الانفجار وتطاير أجزاء العنابر والآلات والأشياء المتراكمة والدائرة الفطرية التي ارتفعت في السماء مذكرة الناس بتلك السحابة التي ظللت سماء هيروشيما في مثل هذا التاريخ منذ 75 عاماً بالتمام والكمال، وما زال العالم يلعن مطلقيها، ويتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الفعل الشنيع.
سبع مرات تعرضت بيروت للتدمير، وطبقات الأرض التي جرى حفرها على أيدي الأثريين أخبرتنا بالقصة المفردة لكل تدمير، كان أكثرها بفعل الزلازل عندما تتلاطم طبقات الأرض الجوفية فتتشقق سطوح القشرة بمن فيها وعليها من ناس وكائنات ومبانٍ ومعالم وسبل عيش ورزق... هذه المرة هي الثامنة، وهناك فاعلون حقيقيون من قاموا بالعمل عن سابق ترصد واصرار. وهؤلاء يجب أن يتم تحديدهم بالأسماء وبهوياتهم الشخصية وأدوارهم في الجريمة، سواء أكانوا مهملين أو متواطئين وفاعلين في الداخل أو مجرمي حرب من الخارج.
بيروت التي قدرها دوماً هو النهوض من ركام الجراح والدمار ليست متروكة على قارعة طريق أو رصيف مرفأ مدمر، تنتظر قوافل الإغاثة العاجلة من كل الأصدقاء والمانحين في العالم، يعلوها غبار الموت والنسيان وصدأ النكران. مدينة تملك هذا المخزون من الذاكرة التي صنعها مبدعون وشعراء وفنانون وصحافيون وثوار وشهداء من أهلها طوال عقود وقرون، لا تطوي صفحة كتابها، ولا تطفئ ضوء نورها ونار إبداعها... كل أولئك الشباب والشابات الذين حملوا أحلامهم وقرار اصرارهم على انتزاع الحياة ثانية لمدينتهم، خصوصاً ممن ليس لهم فيها مربط عنزة، وقاموا يمسحون جراح عاصمتهم وأهلهم... وكل من نزل إلى الشارع مترعاً بالغضب على كل من مهدَّ الدروب نحو هذه الكارثة... كل هؤلاء الذين يشمِّرون عن سواعد عزيمتهم ويطلقون حناجرهم يهزجون بصوت واحد، لقد طفح الكيل وفاض بكل ما حواه من فقر وجوع وبطالة وفساد وزبائنية وطائفية... لكن ما قبل الكارثة ليس كما هو بعدها... ورحلة نهوض بيروت من عثراتها وجراحها ووجعها وركامها ودخانها وحريقها، الذي غطى سماء الوطن وأهله، طويلة وشاقة، ولكنها الخيار الوحيد المتاح رفضاً للموت والتفكك والمقابر.
والمدن لا تموت لأن أحدهم قرر لها هذا المصير، أو لأن الدهر قادها مع تتالي الخطوب إلى نهاياتها المحتومة. المدن تذوي على المدى الطويل، تضعف ولكنها لا تتلاشى، كما أنها لا تصبح أثراً بعد عين، لأن هناك من أراد لها هذا المصير. دوماً هي تحتفظ بسرديات من سبقوا في حكايا وقصص أهلها وبقايا آثارهم وأشيائهم وعمرانهم. نحن نعرف ذلك، ونعرف أيضاً أن الذين يضعون اللبنة الأولى في هذا المعمار المتشابك من الناس والحجارة ومقومات العيش يريدون لمدنهم أن تبقى حية أبداً، ما دامت هناك أرض وشمس وقمر يدورون في فلك الفضاء، يبعثون إلينا نحن البعيدون عنهم بتتالي الأيام والفصول ويوميات المناخ. ولأننا نحن الذين طوينا أشرعة القرى ووضعناها تحت أبطنا، وقصدناها خفافاً مدفوعين برائحة البحر وامتداده الذي كنا نسائل أنفسنا عندما رأيناه للمرة الأولى: هل هناك لهذا البحر ضفة أخرى لا نراها؟ حتى تعلمنا في الجغرافية أن الأرض ليست محمولة على قرن ثور يغضب فتتدحرج البيوت بسقوفها والجدران، ثم يهدأ فتعود الحياة مستقيمة كسطور في دفاتر صفوفنا. وأن الأرض دائرية تسبح في فضاء سديمي لا حدود له ولا نهايات، وأن بحرنا له حدود يابسة وعليه قرى وبلدات ومدن ودول لها أسماء وأعلام وعملات ولغات وشعوب لديها منتجاتها المختلفة. وكنا نشاهد بأم أعيننا البواخر الكبيرة راسية بقاماتها المهيبة في مياهنا كمدن عائمة تحمل معها قصصاً لا نعرفها. تجيء إلينا بالناس الذين يرتدون قبعات صيف وثياباً خفيفة أو معاطف شتاء وملبوسات سميكة.
وأفواج البحارة الذين ينزلون في مرسانا الصغير بثيابهم الزرقاء والبيضاء، وكأن البحر نفسه هو من أوجدهم في أمكنة بعيدة وهيأهم كي يأتوا إلينا، ويسيروا معنا في الشوارع يأكلون من خبزنا وملحنا وطبخنا في المطاعم والأسواق، يسيرون فرادى وجماعات ولا نرى البضائع التي يحملونها معهم، أو تلك التي يعودون بمثلها بعد أن يملأوا مقاهينا صخباً وعربدة ولغات لا نعرف معاني كلماتها.
ولأن بيروت هي هذا المرفأ الذي تكوكب حوله الناس، تحولت من قرية صغيرة قديمة إلى بلدة كبيرة، فمدينة فعاصمة قبل قيام الكيان والدولة. ومع بدء رحلة الحداثة صارت درة في تاج مرصع بالأصداف والألوان القرمزية، واجهتها إلى البحر بما يرد منه وفيه وظهرها الى جدار الجبل الصلد، وهذا الشرق المترع بكؤوس النبوءات والصحارى الملتهبة والأحلام الضائعة. تنظر المدينة إلى الأمواج المتكسرة على صفحات الماء والصخور، وتروي قصة وجودها منذ الزمن الفينيقي إلى ما تلاه، وما مرَّ عليها من زلازل ونوازل. لكنها دوماً كطائر الفينيق تعاود النهوض بوجع ووجد ناسها وشغفهم. تضيف الإدارات المتعاقبة – رغم الحروب ومآسيها - شيئاً من أشيائها إليها حتى أضحت على ما هي عليه، وخرجت من دائرتها الضيقة إلى ما هو أرحب وأوسع مساحة من بواباتها القديمة وسورها الصغير، كي تتسع للقادمين إليها من كل الأعراق والمنابت والثقافات ولمختلف الأغراض والمقاصد. وعاشت عمرها تزهو قروناً وتخبو بين زمن وآخر، يهرسها الاهمال، لكنها تعود فتتبرج معلنة عن صباحات جديدة باسم الناس الذين استطابوا الحياة فيها، أو اضطرتهم صروفها إلى قصدها، فأعلنوا انتسابهم إلى هوائها وبحرها ورملها وبرها ومدارسها وجامعاتها وحلقات الجدل في مقاهي أرصفتها، ومعابدها الوثنية وكنائسها ومساجدها وخلواتها وكل ما ينتسب إلى العقائد البشرية بصلة قربى.
الناس، الناس يا أبناء الأفاعي. أيها القتلة والمافيا المجرمة الشريرة والجهنمية الذين أحضرتم وخزنتم هذا المركَّب – اللعنة حتى كان ما كان من زلزال صنع بأيد محلية خبيرة تضافرت معاً وصولاً إلى النتائج الكارثية التي عصفت بالمكان وأهله ومن هو معهم وبينهم من خلق الله. كأن غضباً سماوياً حلَّ في ساعة تخلٍ فأحالنا إلى نتف ممزقة متناثرة. قبل قليل كانت تضج بالحياة فأصبحنا هشيماً للنار والدخان والشكل الفطري الملعون يظللنا فنسقط في وهدة التحلل والذوبان تحت وطأة الهول والذهول. ونحن لمّا نزل إلى الآن نودع قوافل الشهداء، نوزعهم من أرصفة مرفئها وبين عنابره ومن حاراتها القريبة والبعيدة على كل الأرجاء اللبنانية، أو من الذين واللواتي أقاموا/أقمن معنا، مقدرين أن رحلة الحياة معنا وفي رحابنا تظل ممكنة كونها مضمخة بشمس المتوسط وملحه وألفته السخية وهدوء مياهه. ونحن ممن شهدنا وعشنا حروباً لا تنطفئ إلا لتشتعل أخرى جديدة ندرك مدى خطورة العيش في مدينة ساحلية تقع على فالق سياسي واجتماعي داخلي واقليمي ودولي. ولأننا تذوقنا اللوعة التي بات الآن يدركها الجميع في البحث عن جثة أخ وزوج ورفيق وصديق وابن وابنة. نلهث ونحن وقوفاً أمام أبواب المستشفيات الموصدة، وألسنتنا معقودة على الأسئلة التي لا جواب عنها، والصور التي تتلاحق في ذهنك وأنت تركض عبثاً، وكأنك في صحراء التيه، تدور وأنت في مساحات السراب البعيد كلما اقتربت منه ابتعد وتركك، وليس في فمك سوى العطش إلى كلمة أو إيماءة، تحمل الحرقة في قلبك ولا من يمنحك أكسير الحياة مجرد قطرة من الجواب الشافي المفقود... تدور وتدور تركض حتى يسقط قلبك، ولا من يستجيب لأبسط ما تريده معرفة مصير كائن من لحم ودم وطموحات ومشاريع كان قبل قليل يلهج بها، وكأنها باتت طوع بنانه وفي متناول قبضته.
ممنوع عليك أن تتلقى جواباً ما فقد انقلبت الحياة وبات عاليها سافلها، وكل ما تطمح إليه بات ممنوعاً عنك، ولا صدر تخبئ وجهك في أحضانه ، والجميع في هول الكارثة باتت ألسنتهم مربوطة بخيوط لا تنقطع من الصمت القاتل... لا تعثر على جثة هذا الكائن الذي كان بالنسبة لك كل الحياة. تتواضع فتسأل عن أشلائه بالأقل، عن بقايا ثيابه/ها، عن ساعة يده/ يدها، عن خاتم أصبعه/ها، عن علامة فارقة على صدره/ صدرها/ عن شامة في وجهه/ وجهها، عن ندبة جرح قديم ، عن أي شيء ينفرد به عني وعنك وعن الآخرين... يريد ذوو المفقودين ما تبقى من أبنائهم وبناتهم ، قطعة يد أو عظام مهشمة، أو حتى منديل جيب مطوي في جيب سترة أو قميص مدمّى كي يؤونها التراب ويعلنون الحداد كي يشفوا من هول فقدانهم المباغت، وكأنهم لم يكونوا يوماً كائنات حقيقية من لحم ودم، أو لم يخرجوا للقيام بواجباتهم المهنية أو لتحصيل أرزاقهم أو اسعاف جريح وإنقاذ مستغيث يناديهم من تحت أكوام الأنقاض... شبان وصبايا ورجال ونساء وأطفال كانوا يفترضون أنهم يؤدون أدوارهم ومهامهم بكل شجاعة أو يعبون أكسير الحياة، أياً كانت صفاتهم ضاعوا وسط عصف وهول الانفجار وتطاير أجزاء العنابر والآلات والأشياء المتراكمة والدائرة الفطرية التي ارتفعت في السماء مذكرة الناس بتلك السحابة التي ظللت سماء هيروشيما في مثل هذا التاريخ منذ 75 عاماً بالتمام والكمال، وما زال العالم يلعن مطلقيها، ويتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الفعل الشنيع.
سبع مرات تعرضت بيروت للتدمير، وطبقات الأرض التي جرى حفرها على أيدي الأثريين أخبرتنا بالقصة المفردة لكل تدمير، كان أكثرها بفعل الزلازل عندما تتلاطم طبقات الأرض الجوفية فتتشقق سطوح القشرة بمن فيها وعليها من ناس وكائنات ومبانٍ ومعالم وسبل عيش ورزق... هذه المرة هي الثامنة، وهناك فاعلون حقيقيون من قاموا بالعمل عن سابق ترصد واصرار. وهؤلاء يجب أن يتم تحديدهم بالأسماء وبهوياتهم الشخصية وأدوارهم في الجريمة، سواء أكانوا مهملين أو متواطئين وفاعلين في الداخل أو مجرمي حرب من الخارج.
بيروت التي قدرها دوماً هو النهوض من ركام الجراح والدمار ليست متروكة على قارعة طريق أو رصيف مرفأ مدمر، تنتظر قوافل الإغاثة العاجلة من كل الأصدقاء والمانحين في العالم، يعلوها غبار الموت والنسيان وصدأ النكران. مدينة تملك هذا المخزون من الذاكرة التي صنعها مبدعون وشعراء وفنانون وصحافيون وثوار وشهداء من أهلها طوال عقود وقرون، لا تطوي صفحة كتابها، ولا تطفئ ضوء نورها ونار إبداعها... كل أولئك الشباب والشابات الذين حملوا أحلامهم وقرار اصرارهم على انتزاع الحياة ثانية لمدينتهم، خصوصاً ممن ليس لهم فيها مربط عنزة، وقاموا يمسحون جراح عاصمتهم وأهلهم... وكل من نزل إلى الشارع مترعاً بالغضب على كل من مهدَّ الدروب نحو هذه الكارثة... كل هؤلاء الذين يشمِّرون عن سواعد عزيمتهم ويطلقون حناجرهم يهزجون بصوت واحد، لقد طفح الكيل وفاض بكل ما حواه من فقر وجوع وبطالة وفساد وزبائنية وطائفية... لكن ما قبل الكارثة ليس كما هو بعدها... ورحلة نهوض بيروت من عثراتها وجراحها ووجعها وركامها ودخانها وحريقها، الذي غطى سماء الوطن وأهله، طويلة وشاقة، ولكنها الخيار الوحيد المتاح رفضاً للموت والتفكك والمقابر.
يا لها من مدونة ملهمة!
ردحذف