
قام Yussef Bazzi بمشاركة صورة نوافذ.
6 دقيقة ·
عدد نوافذ 01 حزيران 2014
أطفال بيت سحم
عماد مفرح مصطفى
فجأة كدت اختنق، على وقع بكاء طفل، يتردد صداه بألم ورجاء من آخر غرفة في نهاية الممر الشاحب في مشفى المجتهد. اختفى الهواء من حولي، واختلطت رائحة الدواء والمطهرات مع رائحة الأجساد المتعرقة والمحترقة. بكاء كان يزيد من وحشة تلك الأمتار الإسمنتية الفاصلة بينه وبين أمه المنتظرة في البهو.
الأم المتداعية كبقايا إمرأة، بجسد هزيل ورأس مغطى بقطعة قماش بالية كحجاب، لم تكن تستطيع الوقوف أو الجلوس، كان النداء الآتي لكائن خرج منذ سبع سنوات من رحمها، يقطع كل أوصال السكينة في داخلها، ويزيد من عجزها أمام نظرات الرجل الواقف خلف الباب الحديدي الفاصل بين البهو والممر.
حاولت الدخول، لكن اليد القاسية، للرجل المتجهم، حارس القسم-ـ كما عرف عن نفسه ـ أمسكت بمقبض الباب الحديدي ومنعتني.
ـ ممنوع ...
قالها هو يلتهم بقايا سندويشته، ويمسح عن فمه فتات الخبز وقطرات الزيت المتجمعة على شاربه الكثيف..
ـ لازم تجيب ورقة إذن لحتى تفوت..
ـ ورقة شو..؟!
ـ ورقة من مدير المشفى.. أو من رئيس القسم.
تدخلت الأم بصوتها الشاحب كخيط واهن وقاتم، يتقطع بحرقة بين الرجاء واليأس، تطلب رؤية طفلها الباكي، بينما تشبثت طفلتها الأخرى، ذات الخمس سنوات، بطرف ثوبها الأسود البالي. سألتها بفضول عما جرى. غاب صوتها وراء غصة بكاء، بعد أن تحول صوت الطفل الآتي من نهاية الممر، إلى نوع من الصراخ الممزوج بالحشرجات، دافعا هواء صدره بكل قوة، محاولا لفظ جسده خارج هذا الألم المستمر. صراخ شبيه بزعيق طائر جارح وغريب.
أدار الحارس، ذو الساعد الموشوم بصورة نمر مفترس وجهه عنا، ووضع سماعات هاتفه المحمول على أذنيه الكبيرتين. تعلقت عيناي بتفصيلة الأنياب في الوشم، وتقاطع خطيهما مع انسيابية الشرايين تحت جلده. أي قوة يستمدها هذا الرجل من صورة جامدة على جسده البدين..؟ وكرشه المتهدل..؟
سألت الأم، عما حدث، نظرت إلى الحارس واكتفت بالقول:
حتى حجابي، ما قدرت اخدو من بين دمار بيتي اللي اشتريتو من تحويشة العمر..
ـ الله يخليك، فيك تجيب هاي الورقة اللي عم يحكي عنها..
تقدمت من الحارس المأخوذ بشاشة هاتفه المحمول، والغارق بكل حواسه في مجريات اللعبة الإلكترونية، حيث أصوات الإنفجارات وإطلاق الرصاص وصيحات الجنود، تتردد من ذلك الجهاز الصغير بين يديه، دون أن يكف بين لحظة وأخرى من العض، بخيبة وتحسر، على شفته السفلى. انتظرت للحظات، حتى ترتسم على وجهه طرف ابتسامة صغيرة، كدلالة نصر افتراضي، كي اتدخل بالسؤال عن مكتب رئيس القسم.
ـ ما في حدا هلأ .. لازم تشوف المناوب..
ـ ووين بيكون..؟
اشار إلى الطابق السفلي بحركة من يده، دون أن يرفع بصره عن شاشة هاتفه.
نزلت درجات السلم، كانت الروائح أكثر تركيزا، وكأنها في صراع ما، يأبى كل منها أن يتلاشى أو يزول. روائح لها تاريخ سري من الألم، تجدد طاقتها بذلك الوخز الغريب في الحواس. ابتلعتني ظلمة الممر. بدا المكان للحظة وقد فقد كل ملامحه، لا شيء يدل على شيء. فقط احساس غريب، اسرى لي، بأني سائر في غابة من العيون، تراقبني بصمت وتتلاقى بنظراتها مع نظرات العيون الغافية تحت جلدي.
وقفت للحظة، كان خوفي يتسلق من أسفل قدمي كنبات بري يتعذب في ذاته، وحين لامس بطني الجائع، تجسد خوفي أمامي، في هيئة كائن غريب يهرب مني. كل حركة أو إيماءة من جسده المتثاقل، المخلوق من الحديد البارد وفوارغ الأسلحة وشظايا التفجيرات، كانت تختصر أزمنة متلاحقة وماضية من هواجسي. ناديته، خرج صوتي غريبا عني، شبيه بتلك النبرة المرتبكة لأصدقاء الطفولة، حين كنا نقف أمام معلم المدرسة، ونردد المحفوظات والأناشيد، دون أن ندرك منها معنى كلمة واحدة.
ناديته، كان صوتي شجاعتي. فمنذ أن عمت التظاهرات هذا البلد، بات كل شيء يرتسم بالأصوات. أصوات متداخلة ومتعالية، متهادية وهائجة، مشحونة بطاقة عقود كاملة من الأحلام والمخاوف. أصوات غيرت بهديرها أسلوب الأحاديث والكلام العادي، حتى باتت الأجوبة مختصرة وغامضة، والأسئلة طويلة وحائرة.
أرتطم كائن خوفي بجدار الممر وأختفى فيه، وما إن اقتربت من الجدار حتى لاحت لي صور حلمت بها ليلة أمس، عن أشخاص بدت عليهم آثار الجوع والمرض، يعبرون نفقا عميقا، وكأنهم خرجوا للتو من حصار طويل. بقايا نساء يحملن أطفالا مقعدين من البرد والعوز، عذراوات يخبئن قطرات من الدم المتخثر على أفخاذهن الغضة، شيوخ يفتحون أشداقهم على أنفاس جافة وحشرجات يخالطها صوت كتيم لآلات حادة تجز أوردتهم. كانوا يسيرون بوهن وإيقاع رتيب. يحثهم جندي ذو سحنة غريبة على السير بإيقاع واحد في مشية عسكرية. اقترب من بينهم رجل مسن وسألني بصوت شبيه بالفحيح، وكأنه مغسول بمياه مالحة وحادة.
كيف لنا أن نعود إلى الحياة..؟
كان صوتي غائباً.
لا سبيل إذاً؟ قالها الرجل العجوز، بينما تعالى صوت الجندي بإلحاح وغضب.
لا يمكنكم أن تختلطوا مع الأحياء بعد اليوم..
لفني ظلام الممر البارد الطويل. لم يكونوا حلما. قلتها لنفسي.
أعادني صوت الطفل وصراخه الآتي من الطابق الآخر.
في نهاية الممر اصطدمت برجل تائه، حدق في وجهي، كما ولو أنه يحدق في متاهة ما.
سألني: ألن يتوقف عن البكاء؟
ـ مين؟
أخرج من جيبه صندلا صغيرا، وبدأ يمسحه باهتمام، دون أن يخفض بصره عن نقطة ثابتة في السقف.
ـ دلني إليه؟
استغربت حديثه بالعربية الفصحى، وصرامة ملامحه. أشرت له بيدي إلى الطابق الأول.
ابتعد، متلمسا الجدار برأس مرفوعة وخطوات حذرة. اكتشفت حينها بأنه رجل أعمى.
عدت بالورقة المطلوبة. قرأها الحارس بصعوبة، وأفسح لنا الطريق كي ندخل، أمام باب الغرفة، تداعى قلبي من علوه، شيء شاهق سقط من داخلي، تمرغ في الأرض وغاص فيها كبذرة قاسية وكتيمة لن يكتب لها النور ابدا. كان الطفل محروقا في كامل جسده، يفتح فمه إلى السماء، ويتركها متشنجة ومنفعلة إلى الأعلى، مصدرة أصواتا وحشية، تحاول إخراج شيطان الألم من ثنايا الجسد المحترق. أصوات استنزفت قواه رويدا رويدا، وتركته مجرد كائن فقد كل ملامحه.
جسده المحترق لم يدع له مجالا لنوم أو الإستلقاء. كان الألم يبقيه كحيوان متأهب ومذعور. يمسك بإحدى يديه الإطار الحديدي المحاط بالسرير، وبالأخرى يتمسك بمسدسه البلاستيكي الرخيص، وقد بانت بالقرب من فوهته، آثار أسنانه الصغيرة والمنفعلة. لكن ما زاد على بؤس ذلك المشهد، توتر الأم وهي تنوس بين جدران الغرفة، وقد صعقها منظر طفلها وعجزها عن احتضانه في اي مكان من جسمه الصغير.
وحدها الطفلة الصغيرة، كانت تصر على فعل شيء من أجل أخيها، تقدم له بعض السكاكر الموجودة في قعر كيس بلاستيكي كبير، وحين رأت أنه لا يكف عن إصدار ذلك الصوت الذي لا يحده أية رتابة أو إيقاع، جلست على الأرض وبدأت تنزع أغلفة السكاكر وتقدمها من جديد لأخيها.
بهدوء، دخل الرجل الأعمى ومد يده في الفراغ باتجاه الطفل. تمسّك الطفل بإبهامه، وكأنه استحوذ على طريق الخلاص والنجاة. أطرق الأعمى برأسه وراح يتمتم بكلمات غير واضحة على شكل جمل منغمة. توقف الطفل عن البكاء، وظهرت عيناه من خلف غمامة الدمع أكثر إشراقاً، تجمدت الدموع في عينيه كمرايا صغيرة، لا تعكس سوى العجز، كان بريق الألم يبتعد في عينيه، ويتهادى مع صوت الدرويش الأعمى إلى أمكنة قصية وبعيدة.
على وقع ذلك الصوت، قلت في نفسي، إن كان هذا حلما فآن لي أن استيقظ، لكن كل شيء كان يدل على واقعيته، قطع القماش المبللة بالدواء على الطاولة القريبة من السرير. رائحة أجسادنا التي قد تتحول إلى مستقر للرصاص والشظايا. عينا الأم الغائمتان وهما تحدقان في وجه طفلها، وترى فيه ما لا أراه، ويدها العجوز قبل أوانها، واليابسة كخشب الأبواب وهما لا يستقران على شيء. السحب التي بالكاد يمكن رؤيتها في الخارج وهي لا تهتدي على أي شكل أو تكوين. أصوات تبادل إطلاق الرصاص من مكان بعيد وتواتره الغريب وكأن كل طرف يطلق النار على خوفه الشخصي، في بلاد تتراكم فيها الأحقاد والهواجس مع الأجساد.
بلاد تبتعد عن ألوانها مع سقوط كل قتيل، وقد غطى الغبار وتراب المقابر على كل الوجوه والألوان. أتلمس بهدوء زجاج النافذة وامسح الغبار، أحدق في الذرات العالقة بأطراف أصابعي واتنسم منها رائحة ضحية ما، رائحتها الحية الخالية من الأسماء والصفات، استنشقها بهدوء، وأفكر بالحفر الكثيرة وهي تغزو جغرافيا بلادي، وتثير الغبار وتهيله على رؤوس الجميع؛ حفر بفعل القذائف والصواريخ، وحفر بفعل المعاول والأيادي لدفن الموتى. حفر وراء حفر، تخفي معالم المدن وذاكرتها.
بيت سحم البلدة التي لم أزرها في حياتي، باتت صورتها الآن بالنسبة لي، ترتبط بأطفال تحولت وجوههم إلى نجوم مؤلمة تحت رأسي. بلدة؛ تختفي رويدا رويدا بفعل القصف والقتال، ومعها تندثر معالم ذاكرة أولئك الأطفال، وتنتهي حياة أشخاص لا أعرفهم، ولا يعرفونني.
() بيت سحم بلدة في ريف دمشق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق