الأحد، 6 مايو 2012

تحولات زهرة العبّاد في الخطاب النقدي التوازن الصعب بين المخيّلة والفهم وفيق غريزي


AlmustaqbalPDFA4 PDF  |  FULL PDF
المستقبل - الاحد 6 أيار 2012 - العدد 4333 - نوافذ - صفحة 12


تحولات زهرة العبّاد في الخطاب النقدي

التوازن الصعب بين المخيّلة والفهم


وفيق غريزي
لفلسفة الحدس الغنائي مأثرة تقول إن أشياء الجمال مسرة لا تبيد، وأن سرانية الجميل لا يدركها البلى. إذا ما ذوت بتلات الزنبق المائي، فان ضوعها في قارورة المخيال مسكوب. وإذا ما انقضت ضحكة جذلى سكرى، يظل بريقها يساكن الجمال الفكري. فالحس الانساني مسكن الجمال. هذه الهيمنات الجمالية تستحضر صورة الفن، وعلى وجه التحديد القصيدة، لا بوصفها تمثيلاً للمعنى، بل بوصفها وجوداً جمالي التكوين. صفة الجمالي هنا، قد تعني ما يثير وادع السرور مرة، ومرة ما يخرق المكرسات من سنن اللغة، أي القصدي للممكن المتحجر من اللسان، وطريق النقد الى النص أو الأثر ليس واحداً، تحولات النقد من البنية اللسانية في رونقها الجمالي الى الكشف عن الأنساق الثقافية، يعني تطوير الميكانيزم النقدي من خلال التحول في زاوية النظر، والذي يتطلب تخصيب الأدوات النقدية والمعجم المفهومي بالضرورة.
هذا الكتاب يقدم النقد في تحولاته. والمساءلة الآن: هل يمكن إيجاز التحولات النقدية في آنية من الخزف ونضعها على طاولة القارئ الجاد؟ لا نظن ذلك، ولكن في اضمامة من الأزاهير ثمة ما يبوح باشتعال السوسن وضوعه وهناءته على امتداد حقوله الهاربة صوب أفق التاريخ، بل صوب القابل اللامرئي من الأيام. خطاب النقد هنا، التصاق الإدراك بالتجسد المثير على الورق وليس بالعاصفة التي تحمل غبار الأنساق القبلية والعرقية والأيديولوجية المعبأة للقتل، الخطاب ـ العاصفة يمكن أن يكون مانيفستو سياسياً أو خطبة منبرية لها القدرة على ايقاظ أفعى القطيعة وهي تحمل سم التدمير. أما الخطاب النقدي فهو فعل معرفي يحمل في أعماقه معنى التقويم.
إنبعاث التاريخ والثورة الثقافية
في النقد ثمة ما يشبه حركة التاريخ. فالاتجاهات النقدية، بوصفها كيانات ثقافية، من خلال محيطها السوسيو ـ ثقافي ومن خلال تطورها، تقابلها من التحديات ما يجعلها عرضة للاختبار، وعلى مدى وكيفية الاستجابة لهذه التحديات تتحدد مصائرها. "في حقل التاريخ، يطرح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عبر مؤلفه الكبير "دراسة التاريخ" رؤية كونية لانبعاث الحضارات وازدهارها ثم أفولها، فهو يرى ان هذه الظواهر البشرية تخضع لقانون التحدي والاستجابة"، تنهض الحضارة استجابة لمجموعة من التحديات ذات الطبيعة الحيوية الصعبة. عندما تستجيب حضارة ما للتحديات فانها تنبعث، وعندما تفشل في الاستجابة للتحدي فانها تدخل مرحلة الأفول.
يرى المؤلف ان النقد، في آفاقه المعرفية، يرتبط اما بالحدس أو بالعلم، فالنقد الحدسي، والانعكاس الذاتي علامته الفارقة، مركوز في خارجيات النص اي في سياقاته التاريخية والسياسية والسوسيو ـ ثقافية. لذا، فان مقاربات الانطباعية ـ السيرية ـ السيكولوجية ـ والتاريخية تدرس الأثر في سياقاته دونما الالتفات الى تقنياته الاسلوبية الا لماماً. النقد العلمي، من منحى آخر، هو الفعل المؤسس على مقولات اللسانيات حيث التمركز حول لسانيات الأثر. هذا الوضع ينطبق على الاتجاهات الحديثة بدءاً بالشكلية الروسية وانتهاء بالبنائية. لذا، من الخطل وضع قواعد لما يجب ان يكون عليه الانتاج الشعري، حيث يكفي عمل محدد واحد لعبقرية مبدعة ان يبرهن على عدم جدواها. فالشعر يقول المؤلف: "نقد الحياة متحدياً الشعر، دفق تلقائي موار للمشاعر لحظة الهدأة". وتتجلى الثقافة في الموسيقى واسلوب الحياة والتشكيل والنحت والمسرح والسينما ووسائل أخرى مماثلة. وبالرغم من ان البعض يعرف الثقافة بمفاهيم الاستهلاك وبضائع الاستهلاك كما في الثقافة الراقية والثقافة الهابطة، والثقافة الفولكلورية والثقافة الشعبية فان علماء الأنثروبولوجيا، من جانبهم، يرفضون فكرة مماثلة الثقافة بالبضائع الاستهلاكية. ان منطق الاستجابة والتحدي في النقد يؤكد ثانية ان ليس هناك من مقاربة نقدية واحدة تشكل الحل القطعي لاشكالية النقد.
نظرة في ثقافة عامة
يقول المؤلف: "إذا كانت الانسانية المنشغلة بصراعات الآلهة والبشر أو صراع الارادات الانسانية أموراً قد أدركتها مظانّ الفلسفة والدين والتاريخ، فان الوجود الانساني ذاته قد اصبح يشكل مسرحاً كونياً يتقن حرفياته العقل الدرامي اللماح"
واذا كانت شهوة الحكم وجنوح العاطفة الموارة وتعاليات الفكر اللافاعل تيمات قد تناولتها الفطنة الشكسبيرية، فان الروح الفردي ونوازعه في تقويض سلطة الاله والصبوة نحو امتلاك العالم والزمن بقوة المعرفة والمال والمكيدة، رؤى قد تملكت البعض، ولا سيما الدرامي الانكليزي القتيل كريستوفر مارلو (1539 ـ 1564) الذي كشف عن اشكالية في مفرداته المسرحية الأكثر أهمية (تيمورلنك ـ التاريخ التراجيدي للدكتور فاوست، ويهودي مالطة)، تلكم هي ثقافة القوة، ونظرة فاحصة في الرواية السياسية "الأمير" للمفكر الايطالي نيكولوماكيافللي (1469 ـ 1527) تظهر ان ثقافة القوة مركوزة في عصر النهضة أو روح الحداثة في كينونته الأليزابتية المتحولة. "ترتبط المعرفة الحداثية بالقوة، وهذه المعرفة العلمية ـ التقنية تتحول الى ثقافة وأيديولوجيا، بل الى ميتافيزيقيا ايضاً. وبذلك يصبح العلم التقني ثقافة تحل محل الثقافة التقليدية وتكيفها بالتدريج فهي التحول من العالم المغلق الى الكون اللانهائي". التحول الفكري العظيم في تاريخ الفكر الغربي الحديث قد تجسد في أشكال الفن، وفي مقدمتها الدراما، فالفن تعبير عن رؤية أو رؤى المجموعة البشرية بموجب عقدها الاجتماعي ويستمد من هذا كونيته. هذه الرؤية للعالم تظهر جلية في تيمورلنك لمارلو، فالنص الدرامي يعد من بواكير مارلو الدرامية. استخدم الدرامي القتيل مارلو الشعر المرسل. وهي تقنية تدمج الشعر الجديد بالدراما. فعلى الرغم من ان هذا الشاعر استخدم الشكل الشعري الخماسي الايامبي في هذا الاثر الدرامي، الا ان الدرامي الشاب لم يكن شاعر كشف بل شاعر تحول. فالشكل الخماسي الايامبي ذو البعد الايقاعي الخالي من التقفية، على شاكلة الشعر السومري الميتوبي، مارلو حقن الشعر المرسل بمصل القوة والجمال ليناسب روح العنفوان الحداثي لخطاب عصر النهضة. ويشير المؤلف الى ثمة موازاة بين خطاب الشاعر العباسي المتنبي، والشاعر الاليزابيتي مارلو. فعلى الرغم من تباعد الثقافات واللغات هناك ضرب من الكليات الثقافية، ثقافة القوة المحتكمة الى سوغ الوغى وقرع القنا وشرب الدم من جوف الجراح والصبوة نحو الامتلاك الأرضي هو ما يوحد الخطابات المختلفة، اضف الى ذلك ان كلا الشاعرين يشير الى المصادر الثقافية التي كانت مهيمنة على مستوى الفرد والعصر وفي مقدمتها ارسطو في الفلسفة وجالينوس في الطب.
ومثلما اسبغ شاعر الخيل والليل والبيداء صبغة الفلسفة والبلاغة المتعالية على التفكير الشعري اضفى مارلو على بطله الحداثي تلك البلاغات ليتحدى بها سطوة الطبيعة والانسان والاله على حد سواء. "وعلى الرغم من ان التحديات عند الشاعر العربي لم تصل الى تخطي الاله بحكم ثقافته المركوزة في الاسلام الى ان تشبه رب القوافي بالانبياء لم يكن بالهذر البلاغي، بل كان يصدر عن ثقافة منشغلة بالمعرفة مثلما هي موغلة بالعنف والدم المراق".
المتنبي وخطابه الثقافي
تتبنى النظرية اللسانية الحداثية التصور القائل ان اللغة مادة الأدب. والحقيقة الماثلة للعيان هي ان اي نص أدبي هو جزء من اللغة. فالنص الأدبي ليس تمثيلاً خيالياً للعالم فحسب، بل هو بنية لسانية مستقلة تقدم نفسها للتحليل على وفق نظامها وانتقاءاتها المكتوبة، والحقل الذي يهتم اهتماماً واسعاً بالتحليل اللساني للنص الأدبي هو الاسلوبية الأدبية. ان تحليل النص الشعري لقصيدة (كم قتيل كما قتلت شهيد) للمتنبي، يفترض ان الأنا في لغة المتنبي لا تمثل بالضرورة السيرة الذاتية للشاعر، ولكن ثقافة المتنبي او رؤيته للعالم تتمرأى او تتشكل في الصورة الشعرية، فالسلوك اللساني،كما يفترض الدرس اللساني الحداثي، يظهر الفرد بشكل مباشر على انه حامل لنمط معين من أنماط الثقافة، وأنه اكثر الظواهر ملاءمة للملاحظة العلمية الموضوعية المباشرة. المساءلة هنا ليست مساءلة الكينونة البشرية، بل مساءلة الأنماط السلوكية والفكرية التي تشكل بكليتها ثقافة ابو الطيب المتنبي.
ترتبط اللغة بمفهوم رؤية العالم ارتباطاً وثيقاً. وان انماط اللغة مهمة بشكل اساسي في بناء رؤى العالم المختلفة والمتمايزة. ويفترض البعض ان اللغة، أيما لغة، ترتبط بشكل لا فرار منه بتمثيل العالم الذي لا يمكن ادراكه خارج نطاق اللغة. فاللغة هي التي تشكل الفكر. ان العلاقة بين اللغة ورؤية العالم يمكن ان تجد تطبيقات لها في الأجناس الأدبية كالرواية والشعر، فمن خلال التحليل الاسلوبي للاثر الفني يمكن الوقوف على رؤية مؤلفه للعالم، وأن اي جزء من الاثر الفني يمكن ان يحمل أهمية فكرية، فالطريقة التي يبنى على وفقها العمل الأدبي يمكن ان تبين موقف المؤلف من القضايا التي يتحدث عنها. انه ومن خلال الوظيفة الفكرية للغة يجسد المتحدث تجربته مع ظواهر العالم الواقعي، وهذا يتضمن تجربته مع العالم الباطني لوعيه: ردود افعاله، أفكاره ومدركاته، كذلك أفعال الكلام لديه وادراكه.
ولكن من زاوية لسانية ثقافية، من يتصدى للمتنبي لا يسلم من نقد. فالمتنبي نفيسة مركوزة في ذخيرة العرب البلاغية والثقافية. وللنفائس في ثقافات الأمم يقول المؤلف: "حس القداسة المتوارثة، ولذا فالمساس بها هو مساس بالذائقة الشعرية العربية عبر تكوينها الزماني والمكاني". وتحليل البيانات اللسانية لنص المتنبي الشعرية، يوضح لنا ان جمل الافعال المادية هي العنصر المهيمن في النص، كما يوضح التحليل، كذلك، فان جمل الافعال المتعدية هي الأكثر عدداً إذا ما قورنت بجمل الأفعال اللازمة. ان "حقيقة الجمال عند المتنبي تكمن في روعة الحركة". لقد خلق المتنبي كوناً شعرياً مكتنزاً بالقنا وأصواتها والحرب وبطولاتها الفردية، والخيول وسنابكها، شأنها شأن الملاحم الكلاسيكية. هذا بالطبع بعض من صناعة الشعر، صناعة المتخيل، غير ان الانسانية وثقافاتها وحقوقها التي نصت عليه الأديان الكونائية والعقود الاجتماعية، تظل رثة الثياب رمادية الصبغة في كون ابي الطيب القرمزي الموار. يتضح من كل ذلك حسب اعتقاد المؤلف ان خطاب المتنبي الشعري يحمل ثقافة الشاعر. هي ثقافة السيف في الكون، الثقافة التي يبشر بها الشاعر الداعية لنفسه المروج لفكرته عبر اسلوبية تتوحدن فيها المستويات الشكلية بأنماط السلوك. غير ان ثقافة الفرد او رؤية العالم لا تنبت في الفراغ بل هي ترتبط ارتباطاً جذرياً بالعالم الادراكي المشترك، ان المتنبي يحمل ثقافة امته وقد صيغت بشعرية إعجازية، كما تبدو لأبي العلاء المعري، والمتنبي قد بلور أنموذجه الثقافي الخاص الذي يتفرد به دون سواه، فلا مندوحة من ان تجد الأمة في هذا الأنموذج الثقافي بعضا من صورتها، وان لم تتطابق معه بصورة كلية.
السراج لا يضيء بالنهار
يعنى النقد الثقافي في الاتجاه العام، بدراسة الثقافات المتغايرة. والنظرية الثقافية تتمحور اساساً حول الدور الذي تلعبه الثقافة في حيوات الأفراد والأمم. والتأويل الثقافي يتمركز حول النصوص الثقافية وعناصرها، بقصد ادراك ما تقدمه هذه النصوص عن الثقافة المطروحة، يؤكد المؤلف ان نقد الخطابات الثقافية والانساق العقلية لا تتحدد بالحداثي من الأدب، بل يصبح هذا النقد ضرورة لاستنطاق النصوص الكلاسيكية، والشعرية منها على وجه التحديد، بعد ان تحولت هذه النصوص، بفعل المؤسسة النقدية المتقادمة العهد، الى قداسات أو أشكال جمالية صامتة في متحف الأدب، فيما تظل المؤسسة تمارس دور الناطق الرسمي باسمها، وكل برهنة على بطلان مقدمات المؤسسة هو عدوان على شرف السماء. ويحاول المؤلف استنطاق ثقافي لشاعرين يتباعدان ثقافياً ولسانياً ولكن الجامع بينهما الثورة والابتكار، الشاعران ها ابو تمام وجون دن، هذا الضرب في الاستنطاق يبدو ممكنا اذا ما نظرنا في الكشوفات التي تم تحقيقها في فلسفة التاريخ، حيث توصل اشبنغلر الى ان تواريخ الثقافات المختلفة بمستطاعها ان تتبع النمط ذاته وأن جميع جوانب الثقافة والفن والسياسية والرياضيات والعلم تصل المبادئ التحتية التي تختلف من ثقافة الى أخرى.
يطرح الشعر، بوصفه معطى لسانياً ثقافياً، صورتين من الممكن: شعر الحدس الغنائي، وشعر الفطنة. فالأول يُعنى بالمعرفة القبلية والوله المطلق بالمرئيات التي تقدمها الطبيعة واللامرئيات التي يقدمها المتخيّل. "ولذا فهو نبت غنائي يتولد بفعل اللذة الجمالية المتولدة أساساً عن الموضوع الجمالي الماثل. أما الثاني فهو شعر التجريب الكيميائي حيث اللفظة الكيمياء والمعادلات الشعرية الهندسية، وحيث توحدن الفكر بالعاطفة عبر الممكنات اللسانية المعقدة المركوزة في تجريدات الفلسفة". لذا يصبح من الطبيعي أن نعثر في تواريخ الآداب العالمية على هذه الثنائيات في الشعريات من قبيل أبو تمام وجون دن.
إن شعرية أبي تمام هي شعرية التثقيف المنهجي والمثاقفة في آن معاً، خصوصاً إذا ما أدركنا أن أبي تمام يتحدر من مصادر مسيحية. والمسيحية بوابة المسجد المفتوحة على الثقافات الكونية الكلاسيكية وفي مقدمتها اللاتينية. غير أن البنية الثقافية لهذا الشاعر هي ليست نتاج الذاتي، على قدر أهميته في المراس الشعري، بل هي أيضاً نتاج عصر عظيم. العلاقة بين الفكر واللغة علاقة جدل تقود الى الإبهام في الشعر. هنا "وقبل الإيغال في محاورة هذه الحدوس، لا بد من التنبيه الى أن أبا تمام قد شهد موت الشعر، ليس بمعنى زوال الشعر، إنما زوال السحرية والإدهاش خاصته بسبب من المعاد المكرور من الأسلوبيات والصور". وما تردد مما ترك الأول للآخر من شيء إلا مبتدى هذا الوعي النقدي الشعري لدى أبي تمام ونقضه للنقيض. لذا، فأبو تمام يرد وبقوة أن الشعر لا يدركه البلى لأن العقل مرتعه الخصب.
إذ يجعل أبو تمام اللغة بتجلياتها الصوتية تابعاً للفكر، وهو في غالبيته فكر ابتكاري؛ لذا كان لزاماً على الشاعر الذي يشهد موت الشعر أن يطرح مشروعه الثقافي الشعري المبني على التجاوز والتغاير وهو مغامرة فريدة على مستوى الفكر واللغة آخذاً بمبادئ الإيجاز والتكثيف والتجريد. ويرى المؤلف أن إشكالية مشروع أبا تمام إشكالية في الفكر، فهو لم يخرج على الشكلانية التي توارثتها الشعرية العربية من غابر العصور، إنما القصيدة تحوّلت لديه الى إبنة الفكر بعد أن كانت إبنة الحدس الغنائي التلقائي، المندفع بقوة الموسيقى الصادحة في فضاءات الزمن المترامية؛ لذا نجد أن ألفاظاً مثل العقل، الفهم، الرأي، تشكل المهيمنات في شعر الفطنة لدى أبي تمام. وثمة "تجل يكشف عنه مشروع أبي تمام؛ وهو حقن الجسد التعبيري بالأفكار العقلية والتجريدات الفلسفية". فجوانب الشعر التي يتحدث عنها أبو تمام، هي جوانب شعره من دون سواه. فقصائده تنبت في أرض الغرابة والإغماض، وهي ليست بالكليشهات المأخوذة من الكتب، بل هي مهاد لأبكار المعاني، بعيدة عن السرق الذي انشغل به نقاد الشعر زمناً طويلاً. ولأن هذه المعاني جديدة كل الجدة، ولأن هذه المجازات الذهنية فيها من الإغراب الشيء الكثير، إذن، لا غرابة أن تثير كل هذا الغبار النقدي من لدن بطاء الفهم الذين لا يدركون مسالك الشعر، شعره هو بسبب جدة مشروعه الثقافي الشعري. وعلى الرغم من كل جوانب الجدة هذه، فإن أهم ما يميز برامجيات هذا الشاعر هو عقلنة الشعور، هو ذلك الإدماج ما بين العقل والعاطفة".
التذمر النقدي المتواتر عبر الأزمنة من ذلك الفصام الذي أصاب الشعر العباسي الأول هو التذمر ذاته، ولكن من عصر مغاير وفي ثقافة مغايرة. ليس هناك من تطابق كلي، إنما هناك مقاربات بين العصور والثقافات. هذا الفصام يتسبب به هذه المرة شاعر مثقف من شعراء القرن السابع عشر البريطاني، ذلكم هو جون دن. إن هذا الشاعر يتكلف الميتافيزيقا، ليس في قصائده الهجائية فحسب، وإنما حتى في شعر الحب الذي يجب أن لا تسود فيه غير الطبيعة، وهو بذلك يربك أذهان النساء بتأملات فلسفية دقيقة يتعين عليه أن يشاغل قلوبهن ويسلبهن برقّة الحب، إن شعر دن مستهم من فهم فلسفي للكون وللدور المسند الى الروح البشرية في مسرحية الوجود الغامضة. وهو تفسير فرضه على فكر وخيال شاعر عظّم لغز تعددت مظاهره الفيزيائية واللاهوتية والفلسفية فجمع وأضاء إدراك ذلك الشاعر للحياة، وكشف ورفع إحساسه الشخصي بالفرح والألم، بالأمل والخوف وذلك بتوسيع دلالاتها، كاشفاً له، خلال تاريخ روحه، خلاصة تجريدية لمسرحية مقادير البشر. "الشكوى من الإبهام، تغميض المعنى، الكدّ الذهني، كانت ما تزال قائمة، وشعر الفطنة لدى أبي تمام وجون دن ما يزال يمارس تأثيره في الشعرية العربية والإنكليزية على حد سواء.
الجمالية في شعر جون كيتس
حفل النتاج الأدبي للشاعر جون كيتس بمثال الجمال مثلما حفل بمثال الحقيقة. وفي هذا أثر من آثار الفلسفة المثالية. فلقد أدرك كيتس أن الجمال الحق والحق الجمال، وهذا ليس بعيداً عن المقولات التي ترى أن الجمال هو بهاء الحق والخير. ثمة سؤال: إذا كان المنجز الشعري الكيتسي سعياً صوب اللذة الجمالية، فما طبيعة العلاقة بين الحدس الشعري وعلم الجمال؟ تلقى كيتس من الطبيعة أولى إيماضات الجمال. "فالطبيعة هي الماهية التي يُقبل عليها الرومانسي بِوَلَه طفولي وهو يحاول تكريس الثابت في عالم متحول، بل لا يريد أن يعرف أبداً كيف يتغير القمر. الطبيعة هي مصدر شتى ضروب الحس الجميل". ويظل الرومانسي في بحث دؤوب عن مصادر الجمال الطبيعي، وهو يدرك علاقة جماليات الفن بجماليات الطبيعة.
يرى الفيلسوف الألماني هيغل في فكرة الجمال، أن الجمال الطبيعي الحي ليس جميلاً لذاته وفي ذاته، مثلما ليس هو نتاج ذات ولا موجوداً بسبب ظاهرة الجميل. فالجمال الطبيعي ليس جميلاً إلا بالنسبة الى الآخرين، أي بالنسبة إلينا نحن، بالنسبة الى الوعي المدرك للجمال. إن الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح. فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموّه ينتقل بالضرورة الى نتاجاته، وبالتالي الى الفن. الجمال الحسي للطبيعة أو الحدس الجميل، من خلال الطبيعة، هما أولى حلقات تطور الجمالية الكيتسية، يعبّر كيتس في إحدى رسائله عن غبطته بهذا الكون الحسي. يقول: "يا من لي بحياة مفعمة بالأحاسيس خير من حياة ملؤها الأفكار". النوم والشعر قد تمثل تحوّلاً في إشكالية الجمال لدى هذا الشاعر، وفي الوقت ذاته يبدأ كيتس "بإدراك الثنائيات، التي تظل تؤرقه طوال حياته القصيرة وهي الفرح، الألم، السعادة، الحزن، الصحو، الرقاد، هذه الثمرة الشكسبيرية الحلوة، المرّة كما يعبّر عنها في إحدى أجمل قصائده". لقد عرفت النظرية الرومانسية، وتحديداً عند وليم بلايك وكوليردج، الفن الراقي على أنه تحقق للتوازن بين النقائض والتناغم بين الأضداد، لكنما كيتس وحده قد حقق هذا في ممارساته الشعرية بوجه عام.
"الطبيعة الرمس ضد الحب الرومانسي: ألم عظيم وهيام في الفلوات ونزوع الى المجهول، وما ذلك إلا لأن الحب لا يقنع بشيء، وإنه لا يقوى على امتلاك، وأنه لا يعرف الشبع. وهذا قد يوضح لنا الطواف المحموم وهذا التجوال على غير هدى في مناكب الطبيعة". ويرى البعض أن فاني براون هي المرأة التي أحبها كيتس فأورده هذا العشق موارد السقم. فالمرأة، هذا الملاك الخالق، المدمّر، هي التي تخلق انتصارات الرجال وسقطاتهم. ومهما يكن من أمر المرأة التي أحبها كيتس، فرسائله لها ليست معنية بدراسة طبيعة العلاقة المشبوبة بين شاعر مرهف الحس وغادة معشوقة، بقدر عنايتها بطبيعة العلاقة بين حدوس الشعر وحدوس الجمال. تقترب حدوس كيتس الشعرية كثيراً من المقولات الكانطية حول العلاقة بين الطبيعة والفن. يرى كانط أن الجمال هو ما يثير المسرّة أو الغبطة دونما غائية أو نفعية أو مادية. إن الحدس الشعري لدى كيتس أو المعرفة القبلية في إدراك كنه الجمال هو ما تقوله الفلسفة الكانطية. فحينما نقرر أن هذه الزهرة جميلة، فإننا نعني أنها تولد متعة جمالية لدى كل من يراها. "الكلية في الحكم الجمالي إنما هي في الأصل كلية ذاتية، بمعنى أنها لا تستند الى مبادئ موضوعية ولا تقوم على أدلة أو براهين، بل تقوم على المبدأ الذاتي للذوق بصفة عامة". وعلى الرغم من أن الفلسفة النقدية تقيم ذلك على التوازن بين الفهم والمخيلة، فإن علم الجمال بكليته يتصل بالشعور لا بالعقل، شعر جون كيتس شعر مغمس بمادة الشعور الهلامية، هو شعر البداهة والحدس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق