الأبد السابق

مُني الرئيس الفرنسي، الأحد
الفائت، بهزيمة سياسية مدوية، في انتخاب رئاسي، إن دلّ على شيء فإنما على
ثقافة ديموقراطية عميقة الجذور في مجال تداول السلطة واحترام تقاليدها.
بصرف النظر عن طموحات فرنسا وقيمها وأحلامها، التي قد لا يستطيع الخاسر
والرابح أن يكونا أهلاً لها، فإن أكثر ما يهمّ في هذا الحدث، أن الرئيس
المهزوم، المنتهية ولايته، سيصير بموجب ذلك، "رئيساً سابقاً". فماذا تعني
عبارة كهذه، وما دلالاتها، في منطقة عربية عُرِفت بأنها كانت حتى أمس قريب،
مشغوفة واقعياً، قسراً أو صمتاً مستكيناً، برفع شعار "رئيسنا إلى الأبد"؟
تستهويني كلمة "سابق"، مسبوقة بكلمة ديكتاتور، أو ملك، أو رئيس، أو أمير، أو بطريرك، أو جنرال، أو سوى ذلك من عبارات التفخيم والتبجيل الذكوري الديكتاتوري.
أشعر مطلقاً، حيال هذه الكلمة، بأن لذة عميقة تجتاح أوصالي، وتدبّ في أنحاء روحي. أشعر مطلقاً، بأن شيئاً أساسياً من ضرورات الوجود يتحقق من جرّاء ذلك. أشعر أيضاً، في معنى ما، بأني أنتقم لنفسي، مثلما أنتقم لشعبي، أو لكل شعب يُحمَل، غصباً عن إرادته، على عبادة واحد من هؤلاء "الأبديين"، فيصير هذا الشعب يعبد حريته ويلوذ بها ويستظل فيئها. عندنا، في لبنان، وفي العالم العربي برمته، أمثلة دامغة على الحاكم، المخلّص الأبديّ. لكن عندنا في الآن نفسه، أمثلة دامغة على إرادة جعله "مخلّصاً سابقاً".
لأختصرْ، محدِّداً هدف هذا المقال: لن يكون عندنا أمل بمستقبل كريم، بحياة سياسية، وطنية، كريمة، إلاّ بعد أن تصير عبارة "السابق"، إرثاً وطنياً، فتشمل كل شيء مقدس، وأبدي، ونهائي، في السياسة، في المجتمع، في السلاح، في الحكم، في الثقافة، وفي الدين على السواء.
هذا الأمل الصعب المنال، المستحيله ربما، هو الأمل الضرورة، ولا بدّ من انتزاعه بالأسنان، بالنظرات، وبالأجساد الجامحة الطرية، عاجلاً أم آجلاً.
لذا، أختصر وأوضح: قد يمضي زمن لا بدّ أن يكون عصيباً وعصيّاً، قبل أن تدخل في قيمنا وتقاليدنا الديموقراطية عبارة كالعبارة المذكورة آنفاً: الرئيس أو الملك أو الديكتاتور السابق. ذلك أننا تورّطنا في خضمّ لاوعينا التاريخي، كما في وعينا المعلوم، في جملة معايير حياتية وقانونية وسياسية ودينية وثقافية، صارت بمثابة أحكام منزلة، لا رادّ لها، ولا عاصم منها.
لكن ما جرى، ولا يزال يجري، يجعلنا نصل مثلاً، الى وقائع تتيح لبعضنا، في مغارب العالم العربي، ليبيا وتونس، وفي مصر، واليمن، أن يستخدم مثل هذه العبارة، عبارة "الرئيس السابق".
على أن كثراً يتشاءمون حيال هذه الوقائع، بل يكادون يترحّمون على الزمن الديكتاتوري الذي مضى، ليس لأنهم يحبّون ذاك الزمن، بل لأن البديل الرجراج، الراهن والمتحوّل، يخيفهم، ويحبطهم، وييئّسهم، منذراً باحتمالات ظلامية، دينية، قد تجعل منطقتنا العربية، في شدق نوع آخر من الأبد الديكتاتوري، إسلاموي، سلفي، هذه المرة، قد يكون أدهى من الأبد الحزبي والأمني والسياسي السابق.
فعلى رغم الثورات العربية التي أطاحت رؤوساً يانعة، فإن المدّ الظلامي الجارف والمتصاعد حالياً، يأخذ في طريقه أحلاماً شبابية، لم يُتَح لها أن تتأطر في قوى وتنظيمات وهيئات وأحزاب ديموقراطية، كان من شأنها أن تؤسس لمنطق تداولي، تغييري، أولى علاماته أن الحاكم الأبدي، كان ليصير حاكماً "سابقاً" في البلدان المعنية.
هذا كلّه صحيح، خطير، ومخيف حقاً. لكن الذين منا يشعرون بأنهم أقلويون، أو أهل ذمة، أو يخشون مآلات التغيير، أو يترددون في خوض غماره، أو يتعمشقون بعباءات الملوك والأمراء، أو بعباءات الأمن الرهيب والأحزاب الديكتاتورية، أو بعباءات حرّاس الله، هؤلاء جميعهم، على اختلاف أسبابهم وميولهم ومصالحهم (بعضها مشروع وحقيقي)، لن يفيدهم اللوذ بالأبد المتهاوي، كما لن يفيدهم أنهم مستاؤون من عمليات التغيير الجارية حالياً.
فليستاؤوا. ها أنا أستخدم هذا التعبير بكل فجاجة. ليس لأني ذو ميول حاقدة، على طريقة من يستعمل عبارة "فليبلّطوا البحر"، بل لأني لا أرى طريقاً للخلاص الديموقراطي، قبل أن يتحقق الخلاص من الآباد الراهنة، الذكورية والديكتاتورية.
ليس أمام اللبنانيين والعرب، وكل شعوب العالم التي تعاني من الحكم الأبدي، سوى دكّ هذا الأبد. ها البعض يفعل ذلك، الى أن تؤول بنا الأحوال الى الزمن النسبيّ، المتغيّر، زمن تحقّق الفعل الإرادي الفردي الحرّ، زمن العقل النقدي، طريقنا الوحيد الى زمن الديموقراطية، ودساتيرها وأحكامها.
لا مفرّ من ذلك، أيها الناس، أيها اللبنانيون، أيها العرب، أيها العالم. لا مفرّ من استتباب عبارة "السابق"، في الطريق الى الأمل والحياة والكرامة والحرية.
تستهويني كلمة "سابق"، مسبوقة بكلمة ديكتاتور، أو ملك، أو رئيس، أو أمير، أو بطريرك، أو جنرال، أو سوى ذلك من عبارات التفخيم والتبجيل الذكوري الديكتاتوري.
أشعر مطلقاً، حيال هذه الكلمة، بأن لذة عميقة تجتاح أوصالي، وتدبّ في أنحاء روحي. أشعر مطلقاً، بأن شيئاً أساسياً من ضرورات الوجود يتحقق من جرّاء ذلك. أشعر أيضاً، في معنى ما، بأني أنتقم لنفسي، مثلما أنتقم لشعبي، أو لكل شعب يُحمَل، غصباً عن إرادته، على عبادة واحد من هؤلاء "الأبديين"، فيصير هذا الشعب يعبد حريته ويلوذ بها ويستظل فيئها. عندنا، في لبنان، وفي العالم العربي برمته، أمثلة دامغة على الحاكم، المخلّص الأبديّ. لكن عندنا في الآن نفسه، أمثلة دامغة على إرادة جعله "مخلّصاً سابقاً".
لأختصرْ، محدِّداً هدف هذا المقال: لن يكون عندنا أمل بمستقبل كريم، بحياة سياسية، وطنية، كريمة، إلاّ بعد أن تصير عبارة "السابق"، إرثاً وطنياً، فتشمل كل شيء مقدس، وأبدي، ونهائي، في السياسة، في المجتمع، في السلاح، في الحكم، في الثقافة، وفي الدين على السواء.
هذا الأمل الصعب المنال، المستحيله ربما، هو الأمل الضرورة، ولا بدّ من انتزاعه بالأسنان، بالنظرات، وبالأجساد الجامحة الطرية، عاجلاً أم آجلاً.
لذا، أختصر وأوضح: قد يمضي زمن لا بدّ أن يكون عصيباً وعصيّاً، قبل أن تدخل في قيمنا وتقاليدنا الديموقراطية عبارة كالعبارة المذكورة آنفاً: الرئيس أو الملك أو الديكتاتور السابق. ذلك أننا تورّطنا في خضمّ لاوعينا التاريخي، كما في وعينا المعلوم، في جملة معايير حياتية وقانونية وسياسية ودينية وثقافية، صارت بمثابة أحكام منزلة، لا رادّ لها، ولا عاصم منها.
لكن ما جرى، ولا يزال يجري، يجعلنا نصل مثلاً، الى وقائع تتيح لبعضنا، في مغارب العالم العربي، ليبيا وتونس، وفي مصر، واليمن، أن يستخدم مثل هذه العبارة، عبارة "الرئيس السابق".
على أن كثراً يتشاءمون حيال هذه الوقائع، بل يكادون يترحّمون على الزمن الديكتاتوري الذي مضى، ليس لأنهم يحبّون ذاك الزمن، بل لأن البديل الرجراج، الراهن والمتحوّل، يخيفهم، ويحبطهم، وييئّسهم، منذراً باحتمالات ظلامية، دينية، قد تجعل منطقتنا العربية، في شدق نوع آخر من الأبد الديكتاتوري، إسلاموي، سلفي، هذه المرة، قد يكون أدهى من الأبد الحزبي والأمني والسياسي السابق.
فعلى رغم الثورات العربية التي أطاحت رؤوساً يانعة، فإن المدّ الظلامي الجارف والمتصاعد حالياً، يأخذ في طريقه أحلاماً شبابية، لم يُتَح لها أن تتأطر في قوى وتنظيمات وهيئات وأحزاب ديموقراطية، كان من شأنها أن تؤسس لمنطق تداولي، تغييري، أولى علاماته أن الحاكم الأبدي، كان ليصير حاكماً "سابقاً" في البلدان المعنية.
هذا كلّه صحيح، خطير، ومخيف حقاً. لكن الذين منا يشعرون بأنهم أقلويون، أو أهل ذمة، أو يخشون مآلات التغيير، أو يترددون في خوض غماره، أو يتعمشقون بعباءات الملوك والأمراء، أو بعباءات الأمن الرهيب والأحزاب الديكتاتورية، أو بعباءات حرّاس الله، هؤلاء جميعهم، على اختلاف أسبابهم وميولهم ومصالحهم (بعضها مشروع وحقيقي)، لن يفيدهم اللوذ بالأبد المتهاوي، كما لن يفيدهم أنهم مستاؤون من عمليات التغيير الجارية حالياً.
فليستاؤوا. ها أنا أستخدم هذا التعبير بكل فجاجة. ليس لأني ذو ميول حاقدة، على طريقة من يستعمل عبارة "فليبلّطوا البحر"، بل لأني لا أرى طريقاً للخلاص الديموقراطي، قبل أن يتحقق الخلاص من الآباد الراهنة، الذكورية والديكتاتورية.
ليس أمام اللبنانيين والعرب، وكل شعوب العالم التي تعاني من الحكم الأبدي، سوى دكّ هذا الأبد. ها البعض يفعل ذلك، الى أن تؤول بنا الأحوال الى الزمن النسبيّ، المتغيّر، زمن تحقّق الفعل الإرادي الفردي الحرّ، زمن العقل النقدي، طريقنا الوحيد الى زمن الديموقراطية، ودساتيرها وأحكامها.
لا مفرّ من ذلك، أيها الناس، أيها اللبنانيون، أيها العرب، أيها العالم. لا مفرّ من استتباب عبارة "السابق"، في الطريق الى الأمل والحياة والكرامة والحرية.
¶¶¶
يستهويني
القطيع اللبناني، أو العربي، الذي يعبد كرّازه الأبدي. لكنْ، كم يستهويني
عندما يصاب كرّازه في غريزته المطلقة، فتختلّ توازناتها البهيمية، ويُمنى،
هو، أي الكرّاز، بعطبٍ في قرنيه، وفي دماغه، فيفلت من قوانين غريزته هذه،
التي تقود القطيع، ويصير هائجاً، آخذاً في دربه، كل شيء، واصلاً الى
الهاوية الأخيرة، أو الى جداره التراجيدي المسدود. يستهويني خصوصاً، أنه لا
يعود يرى، بل يظل يعتبر نفسه الكرّاز الأبدي، كرّاز الحق والحقيقة والخير
والصلاح والمستقبل - إلهاً أبدياً، يقود قطيعه الى الأبد، ويُعبَد، ويُسار
على هديه الإلهي المعصوم من كل تغيير أو سؤال أو خطأ. هذا، أيها الديموقراطيون الأحرار، يجب أن ينتهي زمنه. لا شعب حرّاً يُحكَم من كرّاز، فكيف إذا كان يحكم الى الأبد. فلنجعله، إذاً، "حاكماً سابقاً".
¶¶¶
تستهويني
عبارة "الرئيس السابق". تستهويني فكرة "السابق" لأنها تحمل العقل على
البحث عما يليها. هذا البحث بالذات، هذا البحث المضني، الشاق، قد يكون
جحيمياً، تراجيدياً، ومميتاً. لكن لا بدّ من ذلك. ولا مفرّ. سيزيف لم يكن
أفضل حالاً، في صعوده المتكرر الى القمة، حاملاً صخرته على رأسه، في توقه
الجامح الى أن يصل الى هناك، الى فوق، ليسند رأسه المتعب إليها. بمثل هذا
البحث، وإن يكن مميتاً، كما هي الآن، أحوال الشعب السوري، وأحوال الشعوب
العربية الأخرى، يمكن العبور الى ما بعد الأبد، حيث الزمن النسبيّ، والشخص
النسبيّ، والحكم النسبيّ، هو وحده شرطنا للحياة والكرامة والحرية.
¶¶¶
الرئيس
الفرنسي، أصبح "رئيساً سابقاً". هذه واقعة عادية وطبيعية في فرنسا، لكنها
يجب أن تصبح واقعة عادية وطبيعية في عالمنا العربي. فلتأكلنا الغيرة
الإيجابية، من جرّاء ذلك، ولنجعل أبدنا الجحيمي المستمر منذ أكثر من خمسين
عاماً، "أبداً سابقاً".
akl.awit@annahar.com.lb
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق