![]() |
![]() |
مصر: هذا الذي يقال «أيّ كلام»!
الأحد, 06 مايو 2012
هناك ابتداءً التأكيد المبدئي الصالح في كل مكان على الحق في التظاهر،
وعلى حق المتظاهرين في الحصول على حماية السلطات لهم: ليس فحسب ألاّ
تقمعهم، بل أن تمنع وقوع اعتداءات عليهم، وإنْ من «مجهولين». هذا مما يفترض
ألا يجادل به أحد، وهو يعتبر من «حقوق الإنسان» الأساسية، أسوة بالحق في
الطعام والدواء والمسكن. ولا بد هنا من الالتفات إلى الدور المحمود الذي
يلعبه الأزهر في تشكيل دروع بشرية حول المعتصمين لحمايتهم، وأيضاً لاحتواء
حركتهم فلا تفيض في اتجاهات مدمرة لا طائل منها.
ولكن ماذا بعد ذلك، أي ماذا في السياسة: في المواقف والظروف المحددة، والأماكن والتواريخ المحددة؟ هل كل تظاهرة وكل اعتصام «ثوريان» بالضرورة طالما يقومان ضد سلطة جائرة؟ من يختار التوقيت والمكان والشعارات؟ وهل هناك تفكير وتخطيط لهذه الخيارات؟ حساب وضبط لوظائفها وفوائدها يمكن إعلانه، والدفاع عنه أمام الناس، وإقناعهم به وإشعارهم بأنهم معنيون بما يجري، إن لم يكونوا مبادرين إليه؟ تلك هي أسئلة السياسة.
يبدو المـشـهد المصـري على مـقدار كبير من الغموض. فليس من المحتمل أبداً أن البلطجية من «الجيل الثاني» هواة، هم الذين أوقعوا في ساحة العباسية أمام مقر وزارة الدفاع، أكثر من عشرين قتيلاً بين المعتصمين وأكثر من مئتي جريح بعضهم في أوضاع خطرة تنذر بارتفاع ذلك العدد من القتـلى (الذين ذبح بـعضـهم بـينـما قتل آخرون بالرصاص). ويتطلب الهجوم على معتصمين (لعلهم هم من الهواة الذين دخلوا السياسة حديثاً، ولا يمتلكون أي خبرة، وهذا طبيعي)، مقداراً من التنظيم والتنـسـيق والتدريـب والحماية، إن لم نتكلم عن التجهيز الذي ظهر أنه متقدم. ومما يعزز الشكوك في الجهة القائدة لفرق البلطجية تلك، بيان المجلس العسـكري الذي «ينأى» بنفسه، ويقدم الأمر على أنه صراع في الشارع بين مجموعات، بل بين المعتصمين وأهالي الـحي الذين ضـاقـوا ذرعـاً بـهـم! يـكـاد الـمـريـب...
ما مصلحة المجلس العسكري بالفوضى؟ الدفع إلى التمسك باستتباب النظام! مَنْ هو «النظام»؟ إنه المألوف أولاً، والذي يمتلك أدوات السيطرة ثانياً. لطالما اشتغل طرفا هذه المعادلة معاً حتى يجعلا ولادة الجديد أكثر ما يمكن أن تكون عليه صعوبة. هاكم، علاوة على العسكر، السيد عمرو موسى الذي يخطب في مكان من ريف مصر السحيق فيقول للناس إن «حركة 6 أبريل»، التي اختارها لتجسيد أفكاره، «أنصار الفساد والتقسيم» (ولأن «الفساد» صار نعتاً يصلح لكل شيء، ولا يعني شيئاً، فلا بأس، ولكن أي «تقسيم» يا عم؟!)، ويريدون «وقف عجلة التنمية» (أي تنمية؟ بلاش هزار!). ثم جعلهم يرددون هتاف «تحيا مصر» و... «يسقط حكم الفوضى»! ها قد تجسد «الوحش»، تماماً كما تجسد في فرنسا بالمهاجرين الذين يخطفون لقمة عيش السكان الأصليين (!) أو بالمسلمين/ «الإرهابيين»، وحمل أكثر من ستة ملايين فرنسي على التصويت لمارين لوبن التي تسعى إلى تشذيب الصورة الفاشية لحزبها الموروث عن والدها: أعلى نسب التصويت لها في الأماكن المنكوبة اقتصادياً، كالحوض المنجمي الشمالي والمناطق الزراعية القصية. معظم تلك المناطق لا يقطنها مهاجرون ولا مسلمون، وكثيرون من «أنصار» لوبن لم يروا واحداً منهم في حياتهم.
وكلما أصبح «الوحش» مجرداً كان ذلك أفضل. هذا ما يسمونه غسل دماغ، تمتزج في طرق اشتغاله وفي تقنياته مستويات وأدوات متعددة. فمَن في ذلك الصعيد القصي رأى يوماً شاباً من «6 أبريل»؟ لم يهاجم موسى الإخوان أو السلفيين، ولا الإسلاميين عموماً، وهم منافسوه على الرئاسة. فلو فعل لأزعج ملامح «الوحش» كما يريد لها أن تتجسد في رؤوس مستمعيه والمصوّتين له غداً.
لكن المشكلة لا تكمن في أركان «النظام»، بما هو «كتلة» وليس رموزاً سلطوية فحسب، على رغم توافرها هنا! (والمقصود إذاً النظام السابق، والآخر المستمر عبر مساعي تجديد ذاته اليوم، وموسى منهم بالطبع)، بل في بدائله. فبعدما أصيب «الإخوان» بلوثة السلطة الكاملة التي لم تنفع في توريتها لعبة الإغواء مع المجلس العسكري التي مارسوها حتى الثمالة، اكتشفوا أن الآخر ليس متلقياً ساذجاً، وأن له مصالحه ومقاومته، وأنه ينوي استخدامها، فأُحبِطوا. ولعلهم ندموا حيث لا ينفع الندم: عادوا إلى الميدان بعدما عملوا لأشهر على شطبه، وشطب الآخرين من المشهد برمته. عادوا إليه «وظيفياً».
وأما السلفيون بكل تعبيراتهم فمبتدئون في السياسة، ولم يفلح «الإخوان» في استيعاب حركتهم. وهناك الانتهازيون الذين يخططون لمكاسب جزئية: وزارة من هنا واعتراف من هناك.
وأما الثورة فبلا رأس، ليس لأنه لا توجد مجموعات شجاعة ومصممة وذكية وصادقة ومخلصة، بل لأنه لم يعد من الممكن قراءة أهدافها من قبل الناس العاديين. والحال تلك، تبدو المجموعات الثورية متجهة أكثر فأكثر نحو «طليعية» ما، هي على الدوام واحد من عناصر تهديد الفعل الثوري. ولعل تلك الطليعية (كقطيعة عن الناس) تكوينية هنا، وهي بالتأكيد نتاج عقود من القمع ومن تفكيك المجتمع. فمما لا تخطئه العين الاستعداد للتحرك والمطالبة، وهو يشمل البلاد بأكملها، حيث بات الناس يعترضون ويقطعون الطرق دفاعاً عن مطالبهم، ولو الجزئية: انظر ما جرى في الوقت ذاته لأحداث العباسية، في بورسعيد والمنيا والمنوفية، من تحركات تتعلق بالسكن أو الأرض أو بمحاسبة الشرطة، وهي كلها تعود إلى وقائع محددة، خاصة بأصحابها. لكن أشهراً طويلة من الممارسة السياسية الكثيفة، والخبرة بها، لم تثمر توصلاً إلى صيغ توافقية بين تلك المجموعات، هي بالضرورة تسووية بين أطرافها، وغير مرضية بالكامل لأي منها، أي تمثل بالنسبة إلى كل طرف حداً أدنى، والقبول بها يتطلب التواضع بالتأكيد، على قاعدة أن المقياس ألا «يخون» أي كان نفسه، وهي بالضرورة تخطيطية في السياسة والأهداف المتوخاة، ما لا يمنع مثلاً الإعلان عن حرمة الدم بداية.
فمن المدهش أن يُعتبر وقوع ضحايا على هذه الصورة المتكررة أمراً «عادياً»، أو يوظف في تحفيز الانتقام ليس إلا، تطوى موجة أخرى فيصاب الناس العاديون، المزدادون فقراً كل يوم، بالارتباك والهلع. عوضاً عن كلِ ذلك، ما زال كلٌ يغني على ليلاه.
ولكن ماذا بعد ذلك، أي ماذا في السياسة: في المواقف والظروف المحددة، والأماكن والتواريخ المحددة؟ هل كل تظاهرة وكل اعتصام «ثوريان» بالضرورة طالما يقومان ضد سلطة جائرة؟ من يختار التوقيت والمكان والشعارات؟ وهل هناك تفكير وتخطيط لهذه الخيارات؟ حساب وضبط لوظائفها وفوائدها يمكن إعلانه، والدفاع عنه أمام الناس، وإقناعهم به وإشعارهم بأنهم معنيون بما يجري، إن لم يكونوا مبادرين إليه؟ تلك هي أسئلة السياسة.
يبدو المـشـهد المصـري على مـقدار كبير من الغموض. فليس من المحتمل أبداً أن البلطجية من «الجيل الثاني» هواة، هم الذين أوقعوا في ساحة العباسية أمام مقر وزارة الدفاع، أكثر من عشرين قتيلاً بين المعتصمين وأكثر من مئتي جريح بعضهم في أوضاع خطرة تنذر بارتفاع ذلك العدد من القتـلى (الذين ذبح بـعضـهم بـينـما قتل آخرون بالرصاص). ويتطلب الهجوم على معتصمين (لعلهم هم من الهواة الذين دخلوا السياسة حديثاً، ولا يمتلكون أي خبرة، وهذا طبيعي)، مقداراً من التنظيم والتنـسـيق والتدريـب والحماية، إن لم نتكلم عن التجهيز الذي ظهر أنه متقدم. ومما يعزز الشكوك في الجهة القائدة لفرق البلطجية تلك، بيان المجلس العسـكري الذي «ينأى» بنفسه، ويقدم الأمر على أنه صراع في الشارع بين مجموعات، بل بين المعتصمين وأهالي الـحي الذين ضـاقـوا ذرعـاً بـهـم! يـكـاد الـمـريـب...
ما مصلحة المجلس العسكري بالفوضى؟ الدفع إلى التمسك باستتباب النظام! مَنْ هو «النظام»؟ إنه المألوف أولاً، والذي يمتلك أدوات السيطرة ثانياً. لطالما اشتغل طرفا هذه المعادلة معاً حتى يجعلا ولادة الجديد أكثر ما يمكن أن تكون عليه صعوبة. هاكم، علاوة على العسكر، السيد عمرو موسى الذي يخطب في مكان من ريف مصر السحيق فيقول للناس إن «حركة 6 أبريل»، التي اختارها لتجسيد أفكاره، «أنصار الفساد والتقسيم» (ولأن «الفساد» صار نعتاً يصلح لكل شيء، ولا يعني شيئاً، فلا بأس، ولكن أي «تقسيم» يا عم؟!)، ويريدون «وقف عجلة التنمية» (أي تنمية؟ بلاش هزار!). ثم جعلهم يرددون هتاف «تحيا مصر» و... «يسقط حكم الفوضى»! ها قد تجسد «الوحش»، تماماً كما تجسد في فرنسا بالمهاجرين الذين يخطفون لقمة عيش السكان الأصليين (!) أو بالمسلمين/ «الإرهابيين»، وحمل أكثر من ستة ملايين فرنسي على التصويت لمارين لوبن التي تسعى إلى تشذيب الصورة الفاشية لحزبها الموروث عن والدها: أعلى نسب التصويت لها في الأماكن المنكوبة اقتصادياً، كالحوض المنجمي الشمالي والمناطق الزراعية القصية. معظم تلك المناطق لا يقطنها مهاجرون ولا مسلمون، وكثيرون من «أنصار» لوبن لم يروا واحداً منهم في حياتهم.
وكلما أصبح «الوحش» مجرداً كان ذلك أفضل. هذا ما يسمونه غسل دماغ، تمتزج في طرق اشتغاله وفي تقنياته مستويات وأدوات متعددة. فمَن في ذلك الصعيد القصي رأى يوماً شاباً من «6 أبريل»؟ لم يهاجم موسى الإخوان أو السلفيين، ولا الإسلاميين عموماً، وهم منافسوه على الرئاسة. فلو فعل لأزعج ملامح «الوحش» كما يريد لها أن تتجسد في رؤوس مستمعيه والمصوّتين له غداً.
لكن المشكلة لا تكمن في أركان «النظام»، بما هو «كتلة» وليس رموزاً سلطوية فحسب، على رغم توافرها هنا! (والمقصود إذاً النظام السابق، والآخر المستمر عبر مساعي تجديد ذاته اليوم، وموسى منهم بالطبع)، بل في بدائله. فبعدما أصيب «الإخوان» بلوثة السلطة الكاملة التي لم تنفع في توريتها لعبة الإغواء مع المجلس العسكري التي مارسوها حتى الثمالة، اكتشفوا أن الآخر ليس متلقياً ساذجاً، وأن له مصالحه ومقاومته، وأنه ينوي استخدامها، فأُحبِطوا. ولعلهم ندموا حيث لا ينفع الندم: عادوا إلى الميدان بعدما عملوا لأشهر على شطبه، وشطب الآخرين من المشهد برمته. عادوا إليه «وظيفياً».
وأما السلفيون بكل تعبيراتهم فمبتدئون في السياسة، ولم يفلح «الإخوان» في استيعاب حركتهم. وهناك الانتهازيون الذين يخططون لمكاسب جزئية: وزارة من هنا واعتراف من هناك.
وأما الثورة فبلا رأس، ليس لأنه لا توجد مجموعات شجاعة ومصممة وذكية وصادقة ومخلصة، بل لأنه لم يعد من الممكن قراءة أهدافها من قبل الناس العاديين. والحال تلك، تبدو المجموعات الثورية متجهة أكثر فأكثر نحو «طليعية» ما، هي على الدوام واحد من عناصر تهديد الفعل الثوري. ولعل تلك الطليعية (كقطيعة عن الناس) تكوينية هنا، وهي بالتأكيد نتاج عقود من القمع ومن تفكيك المجتمع. فمما لا تخطئه العين الاستعداد للتحرك والمطالبة، وهو يشمل البلاد بأكملها، حيث بات الناس يعترضون ويقطعون الطرق دفاعاً عن مطالبهم، ولو الجزئية: انظر ما جرى في الوقت ذاته لأحداث العباسية، في بورسعيد والمنيا والمنوفية، من تحركات تتعلق بالسكن أو الأرض أو بمحاسبة الشرطة، وهي كلها تعود إلى وقائع محددة، خاصة بأصحابها. لكن أشهراً طويلة من الممارسة السياسية الكثيفة، والخبرة بها، لم تثمر توصلاً إلى صيغ توافقية بين تلك المجموعات، هي بالضرورة تسووية بين أطرافها، وغير مرضية بالكامل لأي منها، أي تمثل بالنسبة إلى كل طرف حداً أدنى، والقبول بها يتطلب التواضع بالتأكيد، على قاعدة أن المقياس ألا «يخون» أي كان نفسه، وهي بالضرورة تخطيطية في السياسة والأهداف المتوخاة، ما لا يمنع مثلاً الإعلان عن حرمة الدم بداية.
فمن المدهش أن يُعتبر وقوع ضحايا على هذه الصورة المتكررة أمراً «عادياً»، أو يوظف في تحفيز الانتقام ليس إلا، تطوى موجة أخرى فيصاب الناس العاديون، المزدادون فقراً كل يوم، بالارتباك والهلع. عوضاً عن كلِ ذلك، ما زال كلٌ يغني على ليلاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق