الأحد، 6 مايو 2012

تجربة الربيع العربي مع ثقافة الاستبداد شاكر الأنباري


AlmustaqbalPDFA4 PDF  |  FULL PDF
المستقبل - الاحد 6 أيار 2012 - العدد 4333 - نوافذ - صفحة 10


تجربة الربيع العربي مع ثقافة الاستبداد


شاكر الأنباري
في أحد البرامج التلفزيونية لقناة عراقية يسأل المراسل واحداً من المواطنين عما يتمناه للبلد، فيجيب المواطن بتلقائية: "أتمنى أن يتوحد الجميع في حزب واحد، لأن تعدد الأحزاب لا يجلب سوى الفرقة والخراب". وهذا رأي يستوقف المتابع طبعا، رغم أنه يصدر من مواطن بسيط قد لا يكون ذا مؤهل تعليمي أو وعي ثقافي مميز. يستوقفه كونه يكشف، من جانب آخر، ذهنية لا توجد في أروقة الشارع البسيط فقط، بل نجدها حتى لدى قادة الأحزاب والحركات السياسية، يمينية كانت أم يسارية، علمانية أم دينية.
يصدر الأمر في الحقيقة عن مجتمع برمته، وفي مرحلة زمنية معينة، ضمن وعي عام لا يمكن تجاوزه من قبل الساسة، والنخب الاجتماعية، والتقاليد الشعبية، والفضاء المعرفي للبلد. وكأن مقولة "المستبد العادل" تجد صدى لها في لاوعي المجموع، وهذا ما عشناه خلال عقود من هيمنة مستبدين، لم يكونوا عادلين طبعا، على مقدرات معظم الدول العربية. فكرة المستبد العادل تنسج على رؤية وجود شخص يمسك بخيوط العدالة كلها، ويتفرد برأيه السديد، ولا يقبل بمنافس له في جنبات حكمه. باعتبار ان البلد أشبه بقطيع ماشية هو المسؤول عنه، أو قرية هو مالكها، ويتوارثها جيلاً بعد جيل.
والمستبد العادل يلغي فكرة تعددية الأحزاب وتعددية المواقف حتى داخل العشيرة أو الحزب أو الحركة السياسية. ومن ينظر الى هذه المقولة يجدها متجلية عندنا بشكل صريح، حتى بعد سقوط المستبد الأوحد، الديكتاتور. هناك قادة دائمون، سواء في أحزاب أو حركات. ورغم وجود مؤتمرات لتلك الأحزاب، ومنعطفات، وانشقاقات، وفشل سياسي وفكري، إلا انها لا تؤدي الى استبدال هذا الزعيم أو ذاك بل تكرسه مرة بعد أخرى حتى يوافيه الأجل. مستبد للحزب، للطائفة، للقومية، للوزارة، إلى أن يستبدله الموت بآخر. في الدول الديموقراطية ما أن يخسر حزب في الانتخابات حتى يطال التغيير زعيم الحزب، وربما القيادات من الصف الأول، فهم من يتحمل مسؤولية فشل الحزب في الفوز. وحادثة استبدال تشرشل في الانتخابات البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية معروفة، وكذلك ديغول بطل التحرير الفرنسي، إذ الشعوب تبحث عن دماء جديدة، وزعماء جدد لكل مرحلة تاريخية. هذا الأمر لا يحدث عندنا على الاطلاق.
صدام حسين خسر ثلاث حروب لكنه بقي في السلطة، وعمر البشير خسر ثلث السودان ولبث منتصرا على كرسي حكمه، وثمة حكام تتظاهر شعوبهم بالملايين، أو تنتفض، رفضاً لهم لكنهم يتشبثون بالسلطة حتى النفس الأخير، كما في حالة العقيد القذافي، وعلي عبدالله صالح، وبشار الأسد. وأينما حدقنا حولنا نشاهد مستبدين، حقيقيين، من دون أن يكونوا عادلين. فلا عدل مع الاستبداد. والمستبد العادل أسطورة صاغها "العقل الشرقي" ليس الا. لكنها على ما يبدو استطاعت أن تزرع جذورها عميقاً في الذهن الشعبي، لتصبح هي البديل المثالي لعسف الواقع، ومهانة الفرد فيه.
واحدة من سيئات أداء الأحزاب والحركات، في عراق ما بعد ألفين وثلاثة، هي عدم تمتع تلك الأحزاب بتقاليد ديمقراطية داخلها، على صعيد انتخابات القيادات، وتعدد الآراء، والانفتاح على الاختلاف حتى داخل الحزب الواحد. وكذلك خلو أغلبها مما نسميه النظام الداخلي، واستراتيجية الحزب أو الحركة، وأهدافه وبرامجه ورؤيته للمعضلات التي تواجه البلد. والمعروف ان الديموقراطية ليست مقولة تحفظ وتطبق بين ليلة وضحاها، انما هي عملية سياسية اقتصادية اجتماعية مستمرة، ولا يمكن أن تنجز أو تصل الى هدف محدد، ونهائي. هي نمط حكم يستمر ويتطور بتطور الانسان. هذه الرؤية يصعب العثور عليها في البيئة السياسية التي نعيش، عراقياً وعربياً، وهذا ما يجعل من الصراعات التي نشهدها صراعات بين مستبدين، على صعيد أحزابهم أولاً، وعلى صعيد النظر الى السلطة ثانياً. من هنا حتى العملية الانتخابية ينظر اليها على انها استحواذ على مقاعد بكل السبل، وليست تنافساً صحياً ضمن قوانين محددة، وتقاليد ديموقراطية ترسخ التعددية، والتداول، وتطوير الأداء.
الديموقراطية، التي هي نقيض الاستبداد، تبدت وكأنها مزروعة اصطناعياً لدينا، مفروضة من فوق، يبقى الذهن الشعبي يبدي الشكوك حولها، ان لم نقل أنه يحاربها. هي نقيض لكل حياته ومعتقداته المتوارثة. والعقلية الاستبدادية التي تعيش بيننا يمكن لمسها من خلال عدم مراجعة التجربة السابقة، سواء تجربة العقود التسلطية، والاستبدادية، او العقد الأخير بعد انهيار حكم البعث وزواله.
نقع عادة على منطق إدانة، وليس على منطق نقد، ومراجعة، وتقييم. فالادانة جاهزة ولا تتطلب جهداً أو تغييراً في العقلية التسلطية، أما التحليل، والمراجعة، والنقد، والاستفادة من الدروس فتتطلب صراحة مع الذات، وصدقا مع الآخر، سواء كان من الحزب ذاته أو الشريك في العملية السياسية. لذلك ليس من الصعوبة الوقوع على ممارسات لا تقل فداحة عن ممارسات العهد السابق، مما يعني تشبث العقلية الاستبدادية في الساحة وتغلغلها في نسيج السلطة وتلونها بأكثر من طابع وشكل. وهنا تكمن خطورتها الحاضرة. وقد تكون نتائج الثورات العربية ليست بعيدة عن الحقيقة تلك.
ونحن نعرف أن آليات الحكم، في سلطة لا تكترث كثيراً بأسس الديموقراطية الحقيقية، ستكون متشابهة، وهذا ما أثبتته تجربة الربيع العربي، في تشابه آليات الأنظمة الساقطة أو التي ستسقط. احيانا تستخدم التعابير ذاتها، حتى على مستوى صياغة الجملة الاعلامية. طرق ووسائل العنف مع المعارضين تتشابه هي الأخرى. خلال محاكمات أركان النظام العراقي السابق لم يعترف أي منهم بخطأ، أو طلب العفو من الضحايا. اركان نظام القذافي سلكوا المسلك ذاته رغم دخول الثوار الى باب العزيزية في طرابلس.
ان المراجعة والنقد والتحليل معرفة، تضاف الى خبرة الشعب وتجنبه تكرار الخطأ، وتكرار التجربة القاسية، لكننا وخلال اكثر من ثماني سنوات على انهيار النظام السابق وبناه السياسية والآيديولوجية لم نلمس هذا النَفَس، هذا التوجه، لدى أي من القوى السياسية، بتلاوينها كافة. بقيت للقائد والمسؤول الحزبي القدسية ذاتها داخل جماعته. ومن نتائج ذلك ان الحوارات بين الكتل والأحزاب والتحالفات سرعان ما تتخذ سمة الحرب، والتطاحن، والذهاب الى أقصى سبل التطرف، وهذا ما يرعب الشارع الذي يتابع ما يدور. والمواطن البسيط الذي قابلته الفضائية كان يرتعب من وجود أكثر من حزب، وأكثر من مشروع سياسي واجتماعي للتغيير، لأنه تربى، طوال سنوات عمره على صورة القائد الأوحد، والشيخ الأوحد، والوجيه الأوحد. واعتاد على فكرة ان هناك من يفكر عوضا عنه، حيث تشغيل العقل عبء على الانسان لأنه يجعله في موقف الاختيار. وهو موقف يتطلب ان يكون الشخص حرا قبل كل شيء.
والحرية اليوم ليست موجودة الا نسبيا، لأن هناك كوابح كثيرة في الواقع العراقي تغلفها، وتحددها، وتعيقها. الانتصار على الخصم سواء كان غريما سياسيا أو غريما في داخل الحزب أهم من مراجعة التجربة للوصول الى الحقيقة بأقصر الطرق، وتجنيب البلد نتائج الاستبداد في المستقبل القريب. ربما من هنا لا نرى إلا نادراً قيام سياسي عربي بكتابة مذكراته الصريحة عن فترة مسؤوليته، ايمانا منه بضرورة تلك المذكرات لجهة عدم الوقوع بالخطأ مرة ثانية. والجميع يعرف، وهذه من البديهيات في الدراسات الاجتماعية، أن العقلية الاستبدادية لم تنبع فجأة من الأرض أو تسقط من السماء، بل هي وليدة ظروف اجتماعية، وبيئية، وتاريخية، تتظافر كلها لتبلور نمطا من الثقافة الجمعية تسمى ثقافة الاستبداد. تترجم في العلاقة بين الطفل والأبوين داخل الأسرة، ثم في العلاقة بين التلميذ ومعلمه، ولاحقا داخل الشارع ذاته، وصولا الى خلق انسان نطلق عليه ابن بيئته، أي حامل تلك الثقافة الاستبدادية، التي حتى وان صار يوما قائداً سياسياً أو مسؤولاً في سلم الدولة لن يستطيع الفكاك منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق